الوطن

حرب أوكرانيا تكشف انتهاء الهيمنة الأحادية وتسرّع ولادة عالم متعدّد الأقطاب والمراكز

حسن حردان

هل كشفت الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا عن انتهاء زمن الهيمنة الأحادية الأميركية الغربية، وسرّعت ولادة عالم متعدّد الأقطاب والمراكز؟

هذا السؤال بات يُطرح بقوة هذه الأيام على خلفية ما يحصل في الغرب وأميركا من أزمات، ونجاح روسيا في إحباط أهداف الحرب الاقتصادية ضدّها

فالحديث عن تراجع وانتهاء زمن الهيمنة الغربية الأحادية على العالم ليس جديداً، فهو حديث يعود إلى نحو عقدين من الزمن، وتزامن مع الهزيمة الأميركية في العراق، وصعود القوة الاقتصادية الصينية، وبداية عودة روسيا إلى الساحة الدولية إثر تسلم الرئيس فلاديمير بوتين مقاليد السلطة ونجاحه في وضع حد لحالة عدم الاستقرار الداخلي ولتدهور دور ومكانة روسيا

لكن هذا الحديث عن تراجع هيمنة الغرب أصبح أكثر ملموسية مع الحضور العسكري الروسي في سورية عام 2015 إلى جانب الجيش العربي السوري في مواجهة الحرب الإرهابية الكونية على سورية، وفرض موازين قوى عسكرية في مواجهة القوة الأميركية..

ومع نجاح سورية وحلفائها في تحقيق الانتصارات على قوى الإرهاب المدعومة أميركياً، وتحرير معظم الأراضي السورية، بات الحديث أكثر عن قرب ولادة موازين قوى دولية جديدة وعالم متعدّد الأقطاب والمراكز لا سيما بعد استخدام روسيا والصين الفيتو المزدوج في مجلس الأمن في مواجهة مشاريع قرارات أميركية غربية.. وفشل أميركا في إخضاع إيران واضطرارها إلى التوقيع على الاتفاق النووي معها والذي يقرّ بحقها في امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية

لكن انسحاب أميركا من الاتفاق، وإقدامها مع الدول الغربية على استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية في مواجهة روسيا وإيران والصين وغيرهم من الدول المناهضة للهيمنة الغربية، أعاد طرح السؤال حول ما إذا كان نظام الهيمنة الغربي قادراً على تعويم نفسه ام لا، لا سيما أنّ سلاح الهيمنة الاقتصادية يشكل آخر أسلحة الهيمنة الأحادية التي تملكها الولايات المتحدة من خلال سيطرتها على النظام المالي الدولي وتحكّمها بالتحويلات المالية بالدولار باعتباره عملة عالميةغير انّ فشل العقوبات ضدّ الصين بسبب التداخل في الاقتصاد بين الولايات المتحدة والصين، ونجاح روسيا في احتواء العقوبات وتعزيز اقتصادها التنموي وعلاقاتها الاقتصادية في إطار منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس، وفتح مجال الاستثمار للشركات العالمية في الشرق الروسي الغني بالثروات، أحبط خطط الغرب لإضعاف الاقتصاد الروسي وإخضاع موسكو، لذلك لجأت واشنطن إلى استخدام آخر أوراقها لمحاولة إضعاف روسيا وتقويض استقرارها وإخضاعها، وهي الورقة الأوكرانية الني نجحت في الإمساك بها عام 2014 عبر الانقلاب الذي نظمته في إطار الثورة الملوّنة وبالتعاون مع الجماعات المتطرفة

وتجسّد هذا الاستخدام الأميركي لأوكرانيا بتحويلها إلى قاعدة غربية للعبث بأمن واستقرار روسيا والتمهيد لشنّ الحرب ضدّها وفرض الحصار عليها وعزلها دولياً وصولاً إلى تفجير الأزمات بداخلها وتحريض الشعب الروسي ضدّ قيادته وتحديداً ضدّ رئيسه بوتين والإطاحة به لمصلحة الإتيان برئيس موالٍ للغرب على غرار الرئيس الأسبق بوريس يلتسين

طبعاً هذا الهدف الأميركي الغربي توسّل تعويم الهيمنة الأحادية الغربية والقضاء على مساعي روسيا والصين وإيران وغيرهم من الدول الطامحة لإقامة نظام عالمي متعدّد الأقطاب والمراكز.. لكن هذه المحاولة الغربية أصيبت بالإخفاق وسرّعت من اتجاه العالم نحو ولادة نظام متعدّد الاقطاب والمراكز، وكشفت أننا بتنا فعلياً أمام نهاية الهيمنة الأميركية الغربية الأحادية على العالم

فقد أدركت القيادة الروسية هذا الفخ الغربي المنصوب لها عبر أوكرانيا فسارعت إلى شنّ العملية العسكرية الروسية الاستباقية في أوكرانيا لإحباط المخطط الغربي، والذي انكشف من خلال حرب العقوبات الاقتصادية التي شنها الغرب ضدّ روسيا رداً على عمليتها العسكرية المباغتة، اعتقاداً منه أنها ستخنق روسيا وتدمّر الاقتصاد الروسي وتدفع الشعب الروسي إلى الانتفاضة ضدّ الرئيس بوتين.. غير انّ هذا الرهان الغربي سرعان ما تكشف وهماً، حيث ردّت القيادة الروسية على العقوبات بسلسلة خطوات أدّت إلى إحباط الخطة الغربية وإغراق أوروبا بالأزمات فانقلب السحر على الساحر.. حيث لجأت موسكو إلى تسعير النفط والغاز الروسي بالروبل مما أدّى إلى تقوية الروبل وتحوّله إلى عملة دولية ازداد الطلب عليها من قبل الدول المشترية للغاز والنفط الروسي.. كما لجأت موسكو إلى إيجاد أسواق جديدة، بديلة عن الأسواق الأوروبية، لبيع الغاز والنفط، وتحديداً الأسواق الصينية والهندية والدول الاسيوية، مما مكّن روسيا من تقليص صادراتها من هذه المادة الحيوية في الاقتصاد، إلى أوروبا التي لم تنجح في إيجاد بدائل حتى الآن عن الغاز والنفط الروسي والمواد الخام الروسية، الأمر الذي رفع من أسعار الطاقة وأدخل على الخزائن الروسية أموالاً طائلة منذ بداية العقوبات حتى الآن قدّرت في المئة يوم الأولى بـ 100 مليار يورو، وإذا ما أخذنا بالاعتبار حتى تاريخ اليوم فإنّ هذا الرقم تضاعف، لا سيما أنّ قرار روسيا أخيراً بتقليص كميات الغاز المصدّرة إلى أوروبا بسبب صيانة أنبوب «نورد ستريم، والتي تعيقها العقوبات الغربية، أدّى إلى زيادة أسعاره، في حين أنّ قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بتقليص وارداته من الغاز الروسي بنسبة 15 بالمئة زاد مجدداً من أسعاره 12 بالمئةوهو قرار لم يحظ بإجماع الدول الأعضاء حيث عارضته العديد من الدول.. خصوصاً أنّ أوروبا ستواجه أزمة طاقة حقيقية مع بداية الخريف وستكون لها تداعيات سلبية كبيرة على حاجات الناس للتدفئة، في حين من المقدّر أن ترتفع الأسعار الأساسية، وتتأثر المعامل التي من المنتظر أن تسرح الآلاف من عمالها نتيجة اضطرارها إلى التوقف ساعات عن العمل بسبب النقص بالطاقة المشغلة للمعامل..

هذه النتائج للحرب الروسية الأطلسية الدائرة في أوكرانيا وعلى الصعيد الاقتصادي، انعكست سلباً على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي تراجعت شعبيته على خلفية ارتفاع أسعار النفط وزيادة التضخم في الولايات المتحدة، في حين فشل بايدين في إيجاد البدائل التي تؤدّي إلى زيادة إنتاج النفط والغاز لخفض الأسعار وتعويض النقص عن الغاز والنفط الروسي، وتجسّد هذا الفشل في قمة جدة الأخيرة، مما فاقم من أزمة أوروبا

في المقابل جاءت قمة طهران التي جمعت الرؤساء الروسي فلاديمير بوتين والإيراني ابراهيم رئيسي والتركي رجب أردوغان والنتائج الاقتصادية والسياسية الناجحة التي تمخضت عنها لتؤشر إلى التحوّل الحاصل في العلاقات الدولية في غير مصلحة الغرب، وتعزز الاتجاه نحو إضعاف هيمنته وإنهاء زمن الأحادية القطبية لمصلحة الاتجاه لولادة نظام دولي متعدّد الأقطاب والمراكز.

انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول انّ الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا بدل أن تعوّم الهيمنة الأميركية الغربية الأحادية، كشفت انتهاء هذه الهيمنة، وسرّعت في ولادة عالم متعدّد الأقطاب والمراكز، يؤشر إليه غرق أوروبا في الأزمات، وعجزها أمام روسيا، وكذلك عجز أميركا وإخفاقها في استعادة هيمنتها والخروج من أزماتها الداخلية الناتجة عن فشل حروبها الاستعمارية ووقوعها في الفخ الذي نصبته لروسيا في أوكرانيا من ناحية.. وتنامي حضور ونفوذ روسيا على الساحة الدولية ونشوء شبكة علاقات اقتصادية بين روسيا والصين وإيران والهند وتركيا إلخ… تقوم على التبادل بالعملات الوطنية مما يكرّس نظاماً مالياً جديداً من خارج نظام سويفت الذي تهيمن عليها الولايات المتحدة من ناحية ثانية…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى