نقاط على الحروف

كشف حساب: الاستفراد والاغتيال والصواريخ

 ناصر قنديل

تقدم جولة غزة الأخيرة من المواجهة بين جيش الاحتلال فرصة نموذجيّة لفحص ميزان الردع بين الفريقين. فهذه المرة قام جيش الاحتلال بتحديد زمان المواجهة ومكانها وإطارها، منتقياً ما يعتبره ظروفاً مثالية لكسر ميزان الردع، فهو اختار لحظة عملياتيّة تجمّعت له خلالها كمية من المعلومات الاستخباريّة مستفيداً من شراكته مع عدد من أجهزة مخابرات عربية عديدة، تتيح تكوين ملف يسمّيه التخلّص من حركة الجهاد الإسلامي وتصفيتها، عبر توجيه ضربات قاسية لقواعدها الصاروخيّة والعسكرية واغتيال قادتها واعتقالهم، واختار لحظة سياسية تجمعت لديه خلالها معطيات تتيح معادلة حصر المعركة بالفصيل الذي يعتبره رافعة السقوف العليا للمقاومة الفلسطينية، وهو تنظيم حركة الجهاد الإسلامي وجناحها العسكريّ سرايا القدس، الأكثر جذرية في خيار المواجهة، والذي يمثل استفراده تفادياً لتشابك نيران اختبر قدرته على التعامل معه، ووصل إلى نتيجة أظهرتها معركة سيف القدس بصورة كارثيّة بالنسبة للكيان وجيش الاحتلال، وحاولت القيادة العسكرية والأمنية الربط بين هاتين اللحظتين لتوظيف نتائج معركة يعتبرها فرصة لترميم ميزان الردع، لتدعيم المكانة السياسيّة لثنائي رئيس الحكومة يائير لبيد ووزير الدفاع بني غانتس عشية الانتخابات، لتنال الموافقة السياسية على العملية، ومعها الموافقة الأميركية، باعتبار العملية الى حد كبير ثمناً ترتضيه «إسرائيل» لقاء القبول بالعودة الأميركية الى الاتفاق النووي مع إيران، وبالطلب الأميركي بقبول التنازلات في ملف الغاز والنفط مع لبنان. وكانت التغطية الإعلامية للقنوات التلفزيونية العربية لصالح تصوير «نصر إسرائيلي» في هذه الجولة شكل المشاركة العربية في الحرب بالإضافة الى الأدوار التي تلقي بظل الاستفهام حول دور الوسطاء.

الضربة التي تلقتها حركة الجهاد الإسلامي كانت شديدة القسوة، والقيادات المستهدفة برموز تاريخية بارزة في الحركة وذات أدوار ميدانية مباشرة في الخطوط الأماميّة، والقدرات الصاروخية، والمواقع التي استهدفت تمثل قواعد عسكرية أساسية للجهاد والسرايا، لكن معيار الحكم على النتيجة يتمثل بالإجابة عن سؤال الردع، وسؤال الردع يرتبط بسؤالين متفرّعين عنه، درجة ثبات الجهاد على موقفها بعد الضربات التي تلقتها، وقدرة الجهاد على مواصلة التحدي والتهديد رغم هذه الضربات وشدتها، وخلال الأيام التي شهدنا خلالها تصاعد المواجهة، يعرف قادة الكيان السياسيين والعسكريين، أن حركة الجهاد خرجت بسقوف أعلى سياسياً بالإعلان المستمر عن الوقت ليس للتهدئة بل للميدان ليقول كلمته الفاصلة. وفي الميدان أظهرت الجهاد والسرايا، قدرة مذهلة في التأقلم مع الوضع الجديد، ما كشف تنظيماً حديدياً لا تؤثر في حيويته وفاعليته الضربات، حيث تولى التنظيم العسكري ببدائل جاهزة للقادة الذين استشهدوا وواصل أداء مهامه بكفاءة عالية، أظهرتها الصواريخ، كميّة وكثافة ومدى وتركيزاً وتصاعداً.

الحديث عن استفراد الجهاد، جاء تعبيراً عن قرار أميركي إسرائيلي بمحاولة شبيهة بحرب تموز 2006، لجهة الظن بأن استئصال أحد أقرب حلفاء إيران وأركان محور المقاومة، الأشد جذرية وقدرة على التهديد لمفهوم الأمن الأميركي الإسرائيلي، سينتج معادلات تؤثر على توازنات التفاوض في ملفات عديدة، سواء مع قوى المقاومة في المنطقة، وخصوصاً لبنان، أو مع إيران ومستقبل ملفها النووي، والرهان على الاستفراد مشفوع بإغراء إبقاء استهداف غزة وتجمعاتها السكانية ومنشآتها المدنية خارج الاستهداف لقاء عدم دخول حركة حماس وكتائب عز الدين القسام خارج المواجهة، وجاء دعم مشاركة حماس والقسام عملياً في المواجهة لتطرح السؤال حول وحدة قوى المقاومة، وهو ما تؤكد قوى المقاومة أنه كان في أعلى مستوياته ضمن تقاسم وظيفي يقول بأن بقاء غزة المدينة خارج الحرب يحرّر الجهاد ويوفر لها فرصاً لإطالة أمد حرب الاستنزاف، وأن وصول جيش الاحتلال الى الفشل سيدفعه الى الانقلاب على هذه المعادلة فيكون لحماس دورها في المواجهة، ونجاح الجهاد أو نجاح الاحتلال، بتوظيف ميزات الاستفراد، يقرره مَن منهما استطاع الاستثمار على معادلة الآخر، فهل أثبتت الجهاد قدرة على تحمل نتائج الاستفراد وتحويل بقاء غزة خارج الاستهداف الى ميزة لإطالة الحرب، أم أن الاحتلال هو الذي نجح بجعل بقاء حماس خارج المواجهة سبباً للتخلص من تهديد الصواريخ ومداها وكثافتها؟

معيار الردع هو هل ظهر الكيان أشدّ أمناً في هذه الجولة أم أنه شعر بقرب التهديد وشدة خطره، والجواب بالوقائع من جهة، وتحديد الطرف الذي يسعى لوقف المواجهة من جهة مقابلة، والواضح أن حركة الجهاد المستعدّة لتقديم قادتها شهداء، والقادرة على تحويل استشهادهم رافعة معنوية في مسار نهوضها، ككل فصائل المقاومة، قد نجحت بتحويل تحدّي الاستهداف والاستفراد إلى فرص لتظهير مصادر قوة كامنة غير متوقعة منها ولديها، ففرغت مستوطنات غلاف غزة من سكانها، ووصلت الصواريخ الى تل أبيب وبئر السبع وعسقلان، وبدأ الحديث عن الحاجة لوقف المواجهة داخل الكيان، وظهرت الجهاد وحدها قادرة على تثبيت معادلة الردع مع جيش الاحتلال، فكيف إذا كانت حماس معها، وكيف اذا كان محور المقاومة معهما أيضاً؟

المعيار هو الصواريخ عند المقاومة وعند الاحتلال وبعيونهما، والباقي إطار وتفاصيل وسياق ظرفيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى