البيئة أمن الإنسان…
سعادة مصطفى أرشيد*
منذ سبعينيات القرن الماضي، أخذ العالم يستشعر الخراب الذي يحدثه العالم الصناعي ـ العالم الأول في بيئة الأرض ومناخها، حينها انطلقت الدعوات للنظر في هذه المشكلة العالمية باعتبارها شأناً إنسانياً عابراً للقوميات والدول والقارات، فتشكلت اثر ذلك منظمات دولية ووطنية وأهلية، وتظاهر الملايين احتجاجاً على ما يحدث وانتصاراً للبيئة، ثم عقدت المؤتمرات التي كان أشهرها مؤتمر الأرض في عاصمة البرازيل ريو دي جانيرو التي حضرها لفيف واسع من قادة الدول والمهتمّين بالمناخ والبيئة فدارت نقاشات وألقيت خطب ودوّنت محاضر الاجتماعات بما لا تتسع به مجلدات عديدة، ولكن من الممكن اختزال كلّ ذلك بالتالي: انّ الحياة على كوكب الأرض تتعرّض لخطر وجوديّ وتهديدات بالغة الجدية بسبب أزمات المناخ التي يتجاوز خطرها خطر أشدّ الأسلحة النووية فتكاً، وانّ السبب في ذلك هو الإنسان وعدوانيته على الطبيعة وإسرافه في استنزاف مواردها، وانّ الحلّ والأمل بإنقاذ الحياة على كوكب الأرض لا يكون إلا بوقف هذا العدوان وترشيد السلوك البشريّ ليكون صديقاً للطبيعة والبيئة.
البيئة والمناخ لم تعودا فكرة عامة او مسألة ترف في غير مكانه، وانما هي مسالة تهمّ وتمسّ جميع من يعيش على سطح هذا الكوكب، والعبث بها جريمة وعدوان على الجميع وخروجها عن السيطرة يهدّد أمماً وشعوباً وحضارات كما يحصل في شرقنا والذي سنرى أثره في وقت ليس ببعيد انْ لم يتمّ تداركه، فبناء السدود من طرف واحد على منابع دجلة والفرات أمر يهدّد بجفافهما وبدمار ما عُرف بشرق الهلال الخصيب وبلاد ارتبط اسمها بهذين النهرين، أرض الرافدين، كذلك ما يحصل في هضبة الحبشة ومنابع النيل الأزرق اثر بناء إثيوبيا لسدّ النهضة، واكتمال عملية ملئه الثالثة والأخيرة التي لن تبقي للسودان ومصر إلا القليل، فيما يشجع العجز المصري ـ السوداني دول وسط أفريقيا على الشروع في مشاريعها التي تستنزف بحيرة فكتوريا وبناء السدود على النيل الأبيض، فيصبح وادي النيل وادياً غير ذي زرع.
حسب منظمة الأغذية والزراعة ومنظمات إغاثية عديدة ان التصحّر والجفاف سيودي بحياة 22 مليون إنسان أفريقي جوعاً ما لم يتمّ الإسراع في إغاثتهم، اما في جنوب الصين، فقد تسبّب الجفاف بانخفاض مستويات الماء في الخزانات والسدود بشكل جعلها عاجزة عن ادارة التوربيدات المولدة للكهرباء فتمّ إغلاق مصانع وتخفيض ساعات العمل في مصانع أخرى. وأوروبا قارة الرجل الأبيض الراقية، والتي تسبّبت مع امتدادها في العالم الجديد بمعظم هذه الأزمة من احتباس حراريّ وثقوب أوزون وغيرها، نراها اليوم تختنق بأزماتها التي لم تكن تخطر لها على بال وتتدحرج ككرة ثلج تزداد حجماً وتعقيداً، فلديها أزمة صحية بسبب جائحة كورونا كادت أن تودي بهياكلها الصحية حتى في ألمانيا أكثر دولها قوة ورفاهاً، ولديها أزمة سكانية بسبب ملايين اللاجئين الذين تدفقوا عليها وكثير منهم من شرقنا ومن أفريقيا الجائعة، وتعاني من أزمات أخلاقية وانهيار قيم المجتمع والأسرة وانتشار النزعات العنصرية، وتعاني من أزمات صناعية واقتصادية تسبّبت بها الحرب الروسية الأوكرانية، جعلت منها رهينة في صناعاتها وتجارتها وتدفئتها ومواصلاتها وإضاءتها للنفط والغاز الروسيين وارتفاع ثمنــه وشــروط الشــراء بالروبل، انعكست عليها وأصبح يستفذ خزائنها فيما العقوبات التي فرضتها على روســيا أصبــحت مصدراً من مصــادر الثروة لروسيا التي تســتطيع أن تهــدّد بقطع توريد النفــط والغــاز والشتاء على الأبواب، واخر هذه الأزمات وأخطرهــا تلك المرتبطة بالتغــيّرات المناخية التي ادّت الى جفاف انهارهــا وبحيراتــها، فزادت من مصائــب أوروبا الشــقراء، وتحــوّلت الحقول والحدائق الخضراء الجميلة للون الأصــفر بعد جفافها، فيما نفقت قطعان الماشــية في أكثر من منطقه عطشاً، وأجلي سكان مناطق الى مناطق أخرى لا تزال أوضاعها المائية أفضل .
تقارير من منظمات البيئة ترى أنّ العالم يحتاج الى التوقف كلياً عن استعمال الطاقة غير النظيفة (النفط والفحم) لعام كامل وذلك كي يتخلص من 700 مليون طن من الغازات الملوثة السابحة في الهواء، وهذه الملوثات لا تعرف الفوارق بين البشر ولا أعراقهم او ألوانهم او معتقداتهم.
ولما كانت الدول لديها حساسياتها وحساباتها تجاه امنها القومي وما يتهدّده، وتضع استراتيجيات الدفاع عنه، فإنّ ما ورد من أخبار وتقارير تؤكد العين مصداقيتها، الأمر الذي يستدعي البحث عن مهدّدات الأمن الوجودي للحياة على هذا الكوكب.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.