أولى

التعليق السياسي

العدالة اللبنانيّة

 

العدالة كمفهوم قانونيّ منوط بسلطة مرجعيّة مستقلة ذات مؤهلات علميّة وأهلية أخلاقية لا علاقة لها بإرضاء الضحايا او ذوي الضحايا، بمقدار بعدها عن إرضاء أهل السلطة واسترضائهم، وعندما تتصدّى العدالة لقضايا جرميّة من العيار الذي يواجهه القضاء في لبنان، تهتمّ أولاً بكشف المسؤول والمستفيد والمشاركين، لا بمعاقبة الخصوم والانتقام منهم كتعويض عن خسارة الضحايا وذويهم، لأن ذلك تضييع للعدالة وارتكاب لجريمة أخرى.

على الأقل منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واللبنانيّون على موعد مع جولات تتكرّر تحت عنوان العدالة لا علاقة لها بكشف الحقيقة وإقامة العدل، بل بتركيب آلية ملاحقة للجريمة تستهدف خصوم ذوي الضحية، وخلق المناخات السياسية والقانونية للانتقام منهم، واعتبار ذلك تعويضاً لخسارة ذوي الضحية، فالتحقيق الدولي والمحكمة الدوليّة لم يكونا طلباً لحقيقة وعدالة، بل لسلطة قانونيّة عدائيّة ضد سورية وحزب الله، تستطيع الذهاب بعيداً في عملية الانتقام.

مع أحداث 17 تشرين قبل عامين، وشعار ملاحقة الفساد ومحاكمة المسؤولين عن الانهيار، تمّ التهرب القضائي من أي ملاحقة لمن لهم صلة بالانهيار. وبغض النظر عن الملاحظات التي يسجلها البعض على القاضية غادة عون، فالجميع يعرف أنها تلاحق وتم إقصاؤها لأنها تجرأت ومست بالمحرّم والمقدّس، وهو حاكم مصرف لبنان، بينما لا مشكلة بملاحقة وزراء ونواب، وإن لم يكن قانونياً، ففي الأماكن العامة والمطاعم بنوع من عدالة شعبية غبّ الطلب، يعتبر السباب والشتائم وأحياناً العنف الجسدي نوعاً من الانتقام الذي يشفي غليل الصدور الغاضبة، ويوحي بالانتصار.

في قضية انفجار مرفأ بيروت، لم نعرف بعد مرور سنتين من جاء بالنترات ولا من سمح بإدخالها وتخزينها ومن رفض إزالتها. فالمسار القضائي يسير بدقة وفقاً لما هو مرسوم لفعل الشيء ذاته، الانتقام من الخصوم.

في قضيّة المودعين يصفق المودعون الذين يعرفون أن ما يناله أي مودع بالقوة سيؤدي إلى تضاؤل فرص حصوله على وديعته الضائعة، وأن التصفيق لما يجري يشبه التصفيق لمن يتجاوز طابور الانتظار أمام فرن الخبز، ويخرج محملاً بما يطلب من الخبز الممنوع عن المنتظرين، لكن التصفيق هو لعدالة الانتقام من الخصوم وليس للعدالة، ولذلك لم يقم أحد من الذين اقتحموا مصرفاً بدعوة زملائه المودعين لمشاركته الاعتصام في المصارف حتى يتمّ التوصل لحل يقيم العدالة.

العدالة الانتقائيّة ليست عدالة، والعدالة الجزئيّة ليست عدالة، والعدالة المتأخرة ليست عدالة، والعدالة الانتقاميّة ليست عدالة، وفي لبنان بعض من كل هذا، إلا العدالة الشاملة غائبة ومغيّبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى