أولى

«اتفاق الترسيم البحري» يتيح دائماً: لـِ «إسرائيل» الاعتداء ولأميركا التدخل وللمقاومة الردّ

} د. عصام نعمان*

أقرّ لبنان أخيراً، بلسان رئيس الجمهورية ميشال عون،اتفاق الترسيم البحريالذي طبخته الولايات المتحدة عبر وسيطها عاموس هوكشتاين.

لبنان لا يعتبراتفاق الترسيم البحريمعاهدةً بدليل انّ رئيس الجمهورية لم يتقيّد بأحكام المادة 52 من الدستور التي تقضي بأنيتولّى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلاّ بعد موافقة مجلس الوزراء”. ولأنها ليست معاهدة في مفهومه كما في مفهوم رئيسي مجلس النواب والحكومة، فقد استغنى الرؤساء الثلاثة عن موافقة مجلس النواب.

إسرائيلاعتبرتاتفاق الترسيم البحري، بلسان رئيس حكومتها يائير لابيد، إنجازاً تاريخياً ونهائياً بما يتعلّق بالحدود مع لبنان. وزيرة الطاقة كارين الهرار ادّعت انّاللبنانيين تراجعوا (…) وكلّ المطالب الإسرائيلية تمّت الموافقة عليها”. صحيفةيديعوت احرونوتفسّرت كلامها بأنّالاتفاق يوضح الحدود البحرية التي وضعتهاإسرائيلوتمرّ غربي رأس الناقورة وتمتدّ على طول خمسة كيلومترات في منطقة العوّامات التي نشرتهاإسرائيلفي الماضي”.

الرئيس الأميركي جو بايدن هنّأ الرئيسين اللبناني والإسرائيليقائلاً: “أنتم تصنعون التاريخ”! لكنه خصّ لابيد بتعهّد لافت: “الالتزام بالحفاظ على أمن إسرائيل القومي”.

في لبنان، قوبلاتفاق الترسيم البحريبمواقف متعددة تنطوي على الكثير من الاختلافات والخلافات. البعض اعتبره اتفاقاً وليس معاهدة وانه يحفظ حقوق لبنان بعد عشر سنوات من المماطلة والتسويف والضغوط الخارجية. البعض الآخر اعتبره معاهدة تنطبق عليها أحكام المادة 52 من الدستور ويقتضي لإبرامها موافقة مجلس النواب.

ظاهرُ الحال يشير الى انّ اكثرية اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، يتخذون حيالالاتفاقموقفاً وسطياً، لعلّ أفصح من عبّر عنه المحامية الدكتورة جوديت التيني بقولها: “إنّ آمال الشعب اللبناني منعقدة اليوم على جوهر اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيلبرعاية الأمم المتحدة واحتوائه على أحكام عادلة ومنصفة بحق لبنان ليتمكّن من استثمار موارده الطبيعية من الغاز والبترول، وأن تُستكمل الجهود في إقرار قانون يسمح بإنشاء صندوق سيادي لإدارة عائدات القطاع لمصلحة الشعب اللبناني (صحيفةالنهارتاريخ 2022/10/13).

الحقيقة أنني كنتُ وما زلت على رأيي بأنّاتفاق الترسيم البحريينطوي في الكثير من فقراته على ما يشير الى أنه معاهدة، كما توحي بأنّ تعديلاً جرى على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة ما يستوجب تطبيق أحكام المادة 52 من الدستور بوجوب عرضها على مجلس النواب لإجازة إبرامها.

الى ذلك، ثمة أمر لا يقلّ أهمية عمّا سبق بيانه هو وجود فقرات فيالاتفاقتتيح لـِإسرائيلالاعتداء على سيادة لبنان وحقوقه، كما تكرِّس تدخلاً أميركياً دائماً في شؤونه الداخلية، خصوصاً الاقتصادية والأمنية.

إنّ نظرة متأنيةً الى فقرات الاتفاق تتيح للدارس الوقوع على الفخاخ الآتية:

أولاً: الفقرةدمن القسم الثاني لـِالاتفاقتفرض على المشغّل (أيّ شركة الحفر والتنقيب العاملة في البلوك رقم 9 اللبناني) إرسال إشعار مسبق الىإسرائيليستأذنها القيام ببعضالأنشطة المعقولة والضرورية، مثل المناورات الملاحية التي يقوم بها المشغّل (…) جنوب خط الحدود البحرية مباشرةًما يطرح سؤالاً عمّا يمكن ان يحدث إذا رفضتإسرائيلقيام المشغّل (الشركة العاملة ) بتلك الأنشطة الضرورية؟

ثانياً: الفقرةهـمن القسم الثاني لـِالاتفاقتنصّ على منحإسرائيلحق مناقشة المشغّل في مسألة تحديدنطاق الحقوق الإقتصادية العائدة لإسرائيل، وان هذه الأخيرةستحصل على تعويض من مشغّل البلوك رقم 9 لقاء الحقوق العائدة لها من أيّ مخزونات محتملة في المكمَن المحتمل”. ألا تعطي هذه الفقرة منالاتفاقلـِإسرائيلحقاً في المياه الإقليمية اللبنانية وتشكّل تالياً اعتداء على سيادة لبنان؟

ثالثاً: تنصّ الفقرة (أ) من القسم الثالث لـِالاتفاقعلى انهفي حال تمّ تحديد أيّ تراكمات او مخزونات منفردة أخرى من الموارد الطبيعية (…) على طول خط الحدود البحرية، فعندها يعتزم الطرفان، قبل المباشرة بتطوير التراكمات او المخزونات، الطلب الى الولايات المتحدة تيسير الأمور بين الطرفين (…) بغرض التوصّل الى تفاهم حول منح الحقوق والطريقة التي يمكن فيها التنقيب عن أيّ تراكمات او مخزونات”. ألا يجيز هذا النصّ لأميركا التدخل الدائم؟

رابعاً: تنصّ الفقرةبمن القسم الثالث لـِالاتفاقعلى انهيتعيّن على كلّ من الطرفين مشاركة البيانات ذات الصلة بكافة الموارد الموجودة في الجهة المقابلة من خط الحدود البحرية المعروفة حالياً وتلك التي يتمّ تحديدها لاحقاً مع الولايات المتحدة”. ألا تنطوي هذه الفقرة على مساس بسيادة لبنان وأمنه القومي اذا ما قامت أميركا بتزويدإسرائيلبهذه البيانات؟

خامساً: تفرض الفقرة (أ) من القسم الرابع لـِالاتفاقعلى الطرفين حلّ ايّ خلافات بشأن تفسير هذا الاتفاق وتطبيقهعن طريق مناقشات تقوم الولايات المتحدة بتيسيرها”.

من مجمل هذه النصوص يتضح أنها تُتيح لـِإسرائيلالمساس بسيادة لبنان، وللولايات المتحدة الأميركية التدخل في شؤونه الداخلية، وللمقاومة (حزب الله) الردّ علىإسرائيلوأميركا وذلك على النحو الآتي:

يقرّالاتفاقللبنان بكامل السيادة والحقوق في البلوك رقم 9 الكائن الى الشمال من الخط 23، ومع ذلك يعطيإسرائيل” “حقإجازة او رفض الأنشطة الضرورية التي يحتاج المشغّل الى القيام بها في البلوك المذكور ما يشكّل اعتداءً على حقوق لبنان وسيادته في هذه المنطقة.

ـ وَرَدت في فقراتالاتفاقعبارات تشير دونما توضيح الى حدود لبنان البحرية ما يحتمل معنى المساس بهذه الحدود التي هي موضع نزاع بين لبنان وإسرائيل، خصوصاً بشأن الخط 23 والخط 29 المحاذيين لحدود لبنان مع فلسطين المحتلة.

تنصّ الفقرةبمن القسم الثالث كما الفقرة (أ) من القسم الرابع لـِالاتفاقعلى التزام لبنان بالاحتكام الى أميركا عند حصول خلاف معإسرائيلبشأن تنفيذالاتفاقما يشكّل تمكيناً دائماً لأميركا من التدخل في شؤون لبنان الداخلية والمساس بأمنه القومي والاقتصادي، وذلك بالنظر الى أمرين لافتين: أولهما إلزام الاتفاق لبنان بمشاركة أميركا بالبيانات ذات الصلة بكافة الموارد الموجودة في الجهة المقابلة من خط الحدود البحرية (اي المقابلة لحدود فلسطين المحتلة)، وثانيهما انحياز أميركا الدائم الىإسرائيلما يجعلها حَكَماً غير نزيه البتّة لفصل الخلافات الناشئة في معرض تنفيذالاتفاق”.

 يتضح من مجمل هذه النصوص انّالاتفاقأتاح ضمناً لـِإسرائيلالاعتداء ولأميركا التدخل الدائم في شؤون لبنان الداخلية والاقتصادية والأمنية، كما أتاح ضمناً للمقاومة فرصةً لمواجهةإسرائيلفي حال اعتدائها مباشرةً او مداورةً على سيادة لبنان وحقوقه في مياهه الإقليمية.

 كلّ هذه الواقعات والاحتمالات والاستنتاجات تجعل مناتفاق الترسيم البحريمعاهدةً مشوبةً بمخالفات قانونية ودستورية. ومع ذلك فقد أصبحت وثيقةً معترفاً بها وملزمة للأطراف الثلاثة الموقعة عليها. وسواء كانت إنجازاً تاريخياً كما يصفها هؤلاء او لم تكن، فلا شك في انها فتحت صفحة جديدة وملتبسة من التهادن او التحارب بين لبنان والكيان الصهيوني.

*نائب ووزير سابق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى