نقاط على الحروف

اليوم الذي غير التاريخ

ناصر قنديل

ــ يجب أن تعرف الأجيال اللبنانية الشابة الصورة التي كان عليها بلدهم لبنان قبل أربعين عاماً، عندما لم يكن هناك شيء في التداول اسمه سلاح حزب الله، وكان السلاح قد صار حكراً على جيش لبناني ممزّق وضعيف، وميليشيا القوات اللبنانية المستقوية بالاجتياح الإسرائيلي الذي كان قد احتلّ العاصمة بيروت، ويوفر الرعاية لميليشيا القوات لمعاونته في مجزرة صبرا وشاتيلا التي أسفرت عن قتل قرابة الثمانية آلاف مناصفة بين اللبنانيين والفلسطينيين، وكانت قلة قليلة من اللبنانيين تعمل ليل نهار لتوفير مقوّمات وخريطة طريق لمقاومة الاحتلال. وكانت ومضات مشرقة تقول بأن ليل الاحتلال لن يطول كما قالت عملية الويمبي التي نفذها القومي خالد علوان وكانت من ضمن مجموعة عمليات أنتجت الانسحاب الإسرائيلي المبكر عن العاصمة، وبينما كان الجيش اللبناني يطارد المقاومين ويزجّ بهم في السجون مع بدء عهد الرئيس أمين الجميل، جاء الخبر من صور صبيحة يوم 11-11-1982 بأن مقاوماً استشهادياً نجح باقتحام مقر الحاكم العسكري بسيارته المليئة بالمتفجرات، وأسقط المبنى على رؤوس من فيه، والحصيلة أكثر من مئة قتيل من كبار ضباط جيش واستخبارات الاحتلال وجنودهم.
ــ بدأ منذ ذلك اليوم مسار جديد في حياة لبنان. فالعملية التي بقي اسم منفذها مكتوماً لسنوات لاحقة، كانت تخفي وراءها مع اسم منفذها أسرار ولادة مشروع تاريخي سينقل لبنان من مرحلة إلى مرحلة. وما قالته هذه العملية حول قوة التخطيط ودقة التنفيذ وعظيم الإنجاز، بقي ينمو ويكبر طوال سنوات الاحتلال التي سبقت هزيمة الاحتلال، بعد أن هزمت المشروع الأميركي وأجبرته على الانسحاب، بعمليات مشابهة لعملية تفجير مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي، وسقط اتفاق 17 أيار وتحرّرت مناطق لبنانية كثيرة خلال سنوات قليلة، وصولاً للانسحاب الأهم في 25 أيار عام 2000، وفي الطريق سقط آلاف الشهداء ومنهم قادة من مؤسسي هذه المقاومة، وفي الطريق بدأ الناس يتعرفون على هذا المشروع الوطني التاريخي ووجوه وأسماء قادته، واتسعت القاعدة الشعبية التي جعلت من هذا المشروع الذي حمل اسم حزب الله والمقاومة الإسلامية، لتمثل عبر جماهير الحزب وتحالفاته أكثر من نصف اللبنانيين بصورة تظهرها أي حسابات بسيطة لنتائج تصويت اللبنانيين في الانتخابات النيابية منذ العام 2005 حتى آخر انتخابات، حيث الأغلبية الشعبية واضحة لصالح الحزب وحلفائه، وحيث الحزب أكبر قوة شعبية بين أحزاب لبنان، حتى أن التصويت التفضيلي لصالح رئيس كتلته النيابية النائب محمد رعد بـ 48 ألف صوت يزيد عن مجموع الأصوات التفضيلية لدزينة من نواب يطلبون نزع سلاح المقاومة. فعلى سبيل المثال مجموع الأصوات التفضيلية لثمانية من هؤلاء تعادل نصف الأصوات التفضيلية للنائب محمد رعد وحده (نديم الجميل وبولا يعقوبيان وسينتيا زرازير ووضاح الصادق وميشال دويهي وأديب عبد المسيح وياسين ياسين وبلال الحشيمي).
ــ هذا المشروع أمام اللبنانيين اليوم، وإذا تحرّروا من عقدة النظر لخلفيته الدينية أو لما يسوّقه الخارج وأمواله عبر الإعلام المموّل، فسيجدونه في السياسة طرفاً قدّم للبنان إنجازات عملية لا تقبل الشك، فقد كان السبب الحاسم في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، ثم في حمايته من الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة منذ العام 1948 بذريعة وبدون ذريعة، ثم في إنهاء خطر التطرف الإرهابي الذي أطلّ برأسه من الجرود الشرقية للبنان بالتزامن والتوازي مع الحرب التي استهدفت سورية، ثم أثبت أنه بيضة القبان في العوامل التي أفضت لضمان تحقيق إنجاز لبناني كبير في مفاوضات ترسيم المناطق الاقتصادية البحرية بعد انتظار لأكثر من عشر سنوات. وبالمقابل فإن هذا المشروع لا يطمح لتسلّم الحكم ولا لبناء دولة تشبه نموذجه الفكري والثقافي، وجلّ ما يطلبه من اللبنانيين أن يتشاركوا معه في بناء دولة تحفظ الاستقرار السياسي والأمني، ولا تفتح الباب لتهديد عوامل القوة اللبنانية وفي طليعتها المقاومة، وتؤسس لحوار وطني جامع يعيد إنتاج السلطة بما يضمن الاستفادة من التجربة المرة التي تسببت بالانهيار الاقتصادي الذي تسبب به رهن لبنان لعقلية “لعبة القمار المصرفية والمالية” وبرهن للمشيئة الأميركية، والدعوة لنموذج دولة تقوم على حساب المصلحة الوطنية الخالصة فلا تؤيد او تعارض دولة أخرى الا بقياس المصلحة اللبنانية.
ــ هذا المشروع الذي ليس في تاريخه إلا التضحيات والإنجازات الناصعة، يمثل أكبر قوة إقليمية وأكبر قوة محلية، يقول للبنانيين اليوم على أبواب انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إنه يمدّ اليدّ بمطالب متواضعة سقفها أن يكون الرئيس المنتخب خارج دائرة خطر التورط بالتآمر على المقاومة، التي لم ير اللبنانيون منها إلا كل خير، بينما لم يروا من أحزابهم سوى وعودٍ لم يتحقق منها شيء، بل إن بعضها في تاريخه ما هو مشين ومخجل.
ــ فليتذكّر اللبنانيون أنه بفضل ما جرى يوم 11-11-1982 بدأ مسار جديد في المنطقة، عنوانه زمن الانتصارات، وأن هزيمة المشروع الأميركي في المنطقة وما ترتّب عليه من فتح الطريق للصعود الروسي والصيني، شكلت نقطة الانطلاق لمسار بدأ يغير العالم، وكل لبناني متحرّر من العقد السوداء يفتخر بأنه ينتمي لهذا البلد الصغير الذي صنع أبناؤه الشرارة التي أشعلت مسار التغيير الكبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى