أخيرة

نافذة ضوء

أديب الحياة الراقية أديب الفكر والشعور الراقيين
‭}‬ يوسف المسمار*

 

إن الأديب الأصيل الحق هو الذي يكون أكـثـر التصاقاً بالـتـراث، وأكـثر اطلاعـاً على مـنـابـع النـبـوغ والعبقرية في تاريخ أمته، وأكـثـر استجابة لـنـداءاتـها، وأشــدّ عـزمـاً واستعداداً على التـصدّي ودفـع الأخـطار المحـدقـة بوطنه.
إن الأديب المنفصـل عن هـموم مجـتـمـعـه وأغـراض وجـوده ومـصالحه في الحيـاة هو أديب مريض، معوق في نفسيتـه، مبلبـل في فكره، مشوّه في عقله وقلبه ووجدانه، ولا يمكن أن ينـتـج عنه إلّا الأدب الذي يقود الى مـزيد من الانهيارات والنكبـات.
والأديب الذي لا يفهـم مشاكـل أمته وقضاياها، ولا يسـاعـد على إيجاد الحلول لها لا يُـعـقـل أبـداً أن يفهم مشــاكـل وقـضـايـا العـالـم ويسـاعـد على حـلّهـا.
ومـن لا يـفـهـم نـفـسـه على حـقـيـقـتـها، فإنـه أعـجـز مـن أن يـفـهـم نفـوس الآخـريـن.
والـذي يـتـنـكــر لـوطـنــه، ولا يـكــون مخـلصــاً لأمـتــه، لا يُـمـكـن أن يـكـون وفـيـاً لأي أمـة ووطـن.
إن الإحـسـاس القــومي الاجتماعي هــو الإحساس الإنسـاني الأســمى. وهذا الإحساس هـو الإحساس الذي يرافق الأديـب الحـق في كـل مـراحـل حياته. فلا يظـهـر في فترة ويختفي في فـتـرة.
بل هـو في ظهـور دائم مهما طرأ من الأحـداث أو الصعوبات أو الطوارئ. إنـه المحـرك والمحـرض على إنـتـاج أدب حيّ لا يمـوت.
إن تـاريـخ البشـريـة مـنـذ كـانـت البشــريـة ما عـرف يـوماً أي سقوط أو مـوت لأي أدب صحيح جـيّد. بـل إن الآداب التي سـقـطـت وانـدثـرت هي اللاآداب، وهي الأضاليل والخزعبلات والقشور التي لا تمتّ الى أدب الحياة النامية الراقية بأي صلة.
مـاذا يبقى مـن الأديب إذا تـجـرّد مـن وعيه وتفكيره وإحساسه وشعوره؟
ما قيمة الأدباء الذين يتغنّون بمآثـر الغـيـر ويتخـلفـون عـن واجبات النهـوض بأنفـسهـم وبأمتهم؟
أي فـضـل للذين يـرون المآسي في شــعـبهـم ويكـتـفــون بتصويرها ولا يساعــدون على تـضـمـيـد جـراح إخوانهـم وإغـاثـة أبـنـاء بلادهـم، وضخ الثقة والعافية بنفوس أبناء أمتهم؟
إن جــذور أدب الحـياة الصحـيـح هي المـمـتـدة في أعـمـق أعـمـاق تاريخ الأمـة وحضارتـها. وأدب حياتنا هــو الـذي نستمدّه من مـواهب أمتـنا وتاريخهـا الثـقـافي الحـضـاري.
وإن الأديب الحي الصحيح هـو ذاك الذي تجد فيه أمته صــورة لنفسها المتحفّزة الناهضة، وفي إنتاجه باعـثاً على تحـريـك حيويتها باتجاه تحقـيـق أسمى المقاصـد والمـُثـُل.
وأدباؤنا الأصحاء والأحياء هــم الـذين أثـبـتــوا ويثـبتــون بإنـتـاجـهـم البـديـع أنـهـم المـعبـِّرون عن نفســيـة أمتـنـا، والحاملون مشاعل الهداية لأبنائـها، والمصارعـون بـدون كـلل ولا مـلل على طـريق:
“طلب الحقـيـقـة الأساسية الكـبـرى لحـيـاة أجـود، في عـالـم أجـمـل، وقيـَم أعلى”.
وهـذه المـرتبة الراقية لا نـستـطـيـع المحافـظـة عليـها إلا باتـسـاع الوعي، وتعـمـيـق المـعـرفة، وتطوير العلم، وشمول النظـرة، وممارسة الفـضيـلة، ومـزاولة العمل الانشائي الإنـتاجي المبدع والتـعـبـيـر الأدبي عن مكامن النفـس وتصـوراتهـا وأحلامها بأجمـل وألطـف وأبلـغ وأفصـح مـا يـكـون من الكتـابة نـثـراً وشـعــراً، ومـن الكـلام نـطـقـاً وخطـابة.
وهذا لا يتوفـر إلا إذا خـرجنا من عالم الظلمات الى عالم النور، ومن فوضى الأضاليل الى نظام الوضوح، ومن واقع التخلف الى حالة النهوض، ومن درك المفاسد إلى درجات الفضائـل، ومـن مـهاوي الجبن والخـوف إلى قـمـم الشجاعة والبطولة، فتولد عندئذ الحياة الجديدة الجيّدة، ويتحقق العالم الجميل، وتـُمارسُ القـيـَم العليا السامية، ويتولّد عند المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين والعلماء وجميع المتنورين فـكـرٌ جـديد، وشــعـورٌ جـديـد، ومـنــاقـب جـديـدة، في نـهضـة حـيـاتـيـة جـديـدة، وأدب حـيـاتي جـديـد. فنكـون بذلك أبنـاء حقيقيـين لعباقرة أمتنا الحقيـقيـين ونـوابـغـها مـن أنـبـيــاء ومفكرين ومصلحين وفـلاسـفة وقادة وأدباء وشعراء وفنانين ومخترعين ومبدعين.
بهذه المزايا الراقية نولد الولادة الجديدة التي أرادهـا لنا يـسـوع السوري رسـول رسالة المحبة والسلام الى جميع بني البشر، وأرادها لنا النبي محمد رسول الأخلاق الكريمة والرحمة للعالمين.
هذه هي رسالة القومية الاجتماعية في الأدب التي دعانا اليها واضع فلسفتها أنطون سعاده التي لا ترى بـديـلاً عـن تـحـقـيـق الحياة الجـيـّدة الجـديـدة لخـلـق فـكـر جـديـد وشــعـور جـديـد يـخـلقـان الأدب الجـديـد المحفز على تحقيق نهضة تكون منارة خالدة ليس لأمتنا وحسب بل لجميع الأمم.
*باحث وشاعر مقيم في البرازيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى