أولى

أي رئيس لجمهورية متحللة تريده منظومة التسوية!

‭}‬ د. عدنان منصور*
أن ينتظر اللبنانيون من «نواب الأمة» انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فهذا حقّ وواجب. لكن أن يلتقي «ممثلو الشعب» في جلسات فولكلورية معروفة مسبقاً نتائجها، فهذه مسرحية مبتذلة لا ترتقي مطلقاً الى المسؤولية الوطنية، والجدّية في التعاطي مع الحدث، والتحسّس بمشاكل الناس وهمومهم، وما نال لبنان من وضع مهترئ، وزعماءه من سمعة في غاية السوء، بإبقاء البلد في الفراغ، وترك الشعب يغرق في مستنقع حياته المعيشية، والمالية، والاجتماعية، والخدمية والمعيشية القاتلة.
إنّ ما يجري في مجلس النواب، مع عدّاد الجلسات المخصصة لانتخاب الرئيس العتيد التي وصلت الى عشر جلسات، يدلّ على مدى الاستخفاف، وعدم الاكتراث بظروف الشعب القاتلة، ومتطلباته الحيوية العاجلة.
فأيّ رجاء ينتظر من طبقة سياسية ستنتخب رئيساً جديداً للجمهورية، وهي الطبقة ذاتها التي انتخبت الرئيس السابق، والأسبق، والأسبق للأسبق، وهي المسؤولة كلياً عن انهيار الدولة، وتفكك المؤسسات، وإذلال المواطنين، وتشويه صورة الوطن في العالم.
إنّها الطبقة السياسيّة القابضة على رقبة لبنان التي أوصلته الى الدرك الأسفل، وجعلت منه في المنطقة والعالم نموذجاً فريداً للفساد، نتيجة فشل حكام هذا البلد المنكوب بهم، في بناء دولة، وإدارة مؤسسات، وصون حقوق شعب.
منظومة سياسيّة، تبحث عن تسوية لانتخاب رئيس للجمهورية، من خلال معادلة داخلية ورضى إقليمي، وتوافق دولي، لا حول ولا قوة، ولا خيار لها، ما دامت تنتظر من هذا الموافقة، ومن ذاك الضوء الأخضر!
إنهم يبحثون عن تسوية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وأيّ رئيس! كيف يمكن لرئيس يُنتخب بتسوية، أن يكون له القرار الحر مستقبلاً بمعزل عن زعماء الجهات المعنية، وهو الذي سبق له أن ارتبط بتسويتهم، ومطالبهم؟!
كيف يمكن لرئيس تسوية، عند تقلده الحكم، أن لا يكون مكبّل اليدين، وأن يقف بكلّ قوة وثقة في وجه الفاسدين، وفي وجه قراصنة الوطن، وناهبيه وسارقيه؟!
هل يستطيع رئيس تسوية في ظل حكم الطوائف، أن يقف في وجه القرارات والتعيينات والتوظيفات، والتنفيعات، والتلزيمات المبنية عن المحسوبية، والحصحصة، والمنفعة الخاصة، والولاء لهذا الزعيم أو ذاك؟!
كيف يمكن لرئيس جمهورية يتمّ انتخابه بتسوية من الأطراف المتخاصمة المتناقضة، أكان ذلك في الداخل او الخارج، أن يؤدّي مهامه بمسؤولية تامة، وحرية كاملة، دون قيود أو شروط او ابتزاز، او عوائق من هنا وهناك، وهو الذي يعلم جيداً، أنه حالما يصل الى رأس السلطة، ستعود المناكفات، والخلافات، والتشنجات داخل المنظومة السياسية التي انتخبته رئيساً، وسيعود كلّ فريق سياسي في ما بعد إلى سيرته الأولى، ليفرض شروطه المسبقة قبل أن يشارك في أيّ حكومة مستقبلية.
ما الذي سيتغيّر في عقلية وممارسة الطبقة السياسية الحاكمة، إذا كانت إدارتها للحكم، وسلوكها هو ذاته، طالما تضمّ في صفوفها كلّ الذين أوصلوا البلد والشعب الى حالته المزرية، التي لا يحسدها عليه أتعس شعوب في العالم.
لا يأمل اللبنانيون لا اليوم ولا غداً، ولا ينتظرون التغيير، والانطلاق في بناء دولة المواطنة من رئيس مقيّد، ومكبّل الصلاحيات، وبالذات من طبقة سياسية فاشلة، أمعنت في الفساد بكلّ المقاييس، تختلف في ما بينها في العلن، وتتناغم بالسر في سلوكها، مستنسخة سابقاتها، فيما اللبنانيون عرفوا حقيقتها البشعة عن قرب وعلى مدى عقود.
هل يتصوّر أيّ لبناني عاقل، أنّ الذين قبضوا على السلطة، ونهبوا البلد وأفلسوا شعبه، وجوّعوه وأذلّوه، سيسهّلون مهمة الرئيس القادم، كي يقف بكلّ حزم في وجههم، ووجه الناهبين، والاحتكاريين، وحيتان المال الحرام، الذين أفرغوا الخزينة العامة، وعبثوا بالدستور والقضاء والقوانين، وبكرامات الناس وحياتهم ومستقبلهم، وكانوا العلة الأساس في انهيار البلد؟!
هل يتصوّر عاقل، أنّ أيّ رئيس تسوية للجمهورية سيتمكن من مواجهة المنظومة الفاسدة، أو ستسمح له، أو ستسهّل مهمته للقيام بإجراءات إصلاحية جوهرية جذرية تطالها بالمباشر، وتستأصل المرض المستشري في شرايين الدولة ومؤسساتها؟!
كيف يمكن لطبقة سياسية قابضة على مفاصل البلد، التي هي أساس الدولة العميقة، أن تفسح المجال للرئيس العتيد، ان يتخذ قرارات تتعارض مع امتيازاتها، ونهجها، وسلوكها، وتضع حداً لسطوتها، وصفقاتها المشبوهة، واقتسام الحصص في ما بينها؟!
هل ستتيح المنظومة السياسية ودولتها العميقة، لرئيس تسوية، أن يخرج لبنان من حالة الارتهان المذلّ، السياسي، والاقتصادي، والمالي للغرب، لينطلق بحرية وكرامة، باتجاه الشرق، كي يرىسم معادلة جديدة تخدم قراره السياديّ، ومصالحه السياسية، والوطنية، والاقتصادية، وتحرّره من بيت الطاعة الغربية العمياء؟!
هل ستسمح طبقة الدولة العميقة للرئيس القادم أن يلاحق مهرّبي الأموال إلى الخارج، وكشف هوياتهم، واسترداد الأموال المنهوبة؟!
هل ستسمح منظومة الدولة العميقة للرئيس القادم، بمتابعة فصول ملفات الفساد على طول لبنان وعرضه، بكلّ أشكالها وخفاياها، وكشف مستورها و»أبطالها»، و»قراصنتها»، وملاحقتهم حتى النهاية، وعدم لفلفتها بذريعة أنها تتجاوز الخطوط الحمر، وإطلاق يد القضاء بالكامل، ورفع اليد السياسية عنه !
ما الذي تغيّر، حتى يعوّل اللبنانيون الآمال على رئيس الجمهورية المنتظر، ويتفاءلون في بناء الدولة والمؤسسات من جديد، وتحقيق الإصلاح، إذا كانت المنظومة الحاكمة هي ذاتها، والقضاء المشلول بكلّ أدائه، وفصوله، وتجاذباته وتناقضات قرارات قضاته حيال ملفات حساسة للغاية، باقياً على حاله، وشبكة الاحتكاريين تزداد شراسة، وتوسعاً وتوحشاً يوماً بعد يوم، وأخطبوط المال الحرام مستمرّ في نهبه دون حسيب أو رقيب، وحاكم بيت المال «العظيم» المحاط بعصابته وحاشيته، وجواريه مستمرّ في عربدته، وقراراته العشوائية المتخبّطة التي بدّدت ثقة العالم بالنظام المصرفيّ، وقضت على ودائع المواطنين، وعملتهم الوطنية !
أيّ أمل، وأيّ تفاؤل ينتظره اللبنانيون من زعماء، ما كانوا يوماً إلا العلة المباشرة لانهيار الوطن، وبؤس الشعب، وما سيحمله المستقبل له من يأس وإحباط، فيما زعماؤه منفصلون كلياً عنه وهم يعيشون عالماً غير عالم المسحوقين والمعذبين…
ما الذي تغيّر منذ أربع سنوات، منذ ثماني سنوات، منذ ثلاثين سنة، منذ أربعين سنة، وحتى اليوم غير عامل الزمن، وكأن البلد تمّ تحنيطه، لا حركة فيه، ولا حول ولا قوة له. بينما الطبقة السياسية المتجذرة، القابضة على رقاب الشعب، مستمرة بكلّ شراسة في الحفاظ على نفوذها وتعزيزه غير عابئة بالدستور والقوانين والقضاء.
إنها لعنة القدر على لبنان، الذي ابتُلي بمنظومة سياسية عديمة المسؤولية والأخلاق والضمير، جثمت على صدره ولا زالت، تمارس فجورها وفسادها على الأرض. وبعد كلّ ذلك تريد منا أن نثق بها، وتقنعنا بـ «صدقيتها»، و»نزاهتها»، «وجدارتها» و»إنجازاتها» الباهرة التي أغرقتنا فيها!
إذا كان اللبنانيون ينتظرون تصاعد الدخان الأبيض من «مجلس الأمة» ليبشّرهم بانتخاب الرئيس الجديد، فإنّ ما يهمّهم أكثر بكثير من الانتخاب، ومن أيّ رئيس، هو إزاحة الطبقة السياسية السوداء من حياتهم وحياة الوطن، وإن كان هذا ضرب من ضروب الخيال، في ظلّ نظام طائفي ميت كريه، لا يمكن له أن يكون مطلقاً في خدمة الوطن والشعب بأي حال من الأحوال، لا اليوم ولا غداً، وإنما في خدمة تجار الطوائف ومقاوليها، ومحظوظيها.
أمام هذا الأمر الواقع المرير، الذي يعيشه اللبنانيون لا نزال على قناعة تامة بعنوان مقالة كتبناها في هذه الصحيفة يوم 15 آب 2020 ليس من باب اليأس، وإنما من باب الحقيقة الكاملة: «أيّها اللبنانيون لا تعوّلوا على الإصلاح، فالإصلاح مستحيل».

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى