أولى

تغيير السياسات بديلاً لرحيل الحكومات!

‭}‬ د. محمد سيّد أحمد
حدّثني اليوم وقبل البدء في كتابة مقالي الأسبوعي أحد الأصدقاء المتابعين لمقالاتي وناقشني في مقال الأسبوع الماضي عن الدولار وانفلات الأسعار وحالة الفوضى، وأكد على إعجابه بالمقال وتوصيف الحالة بدقة، خاصة مسؤولية الحكومة عن هذا الفشل الاقتصادي، لكنه اعترض على عدم تقديم حلّ للوضع الاقتصادي المتردّي، وعندما هممت لتوضيح الأمر وأنني قدمت الروشتة العلاجية بين ثنايا المقال، قاطعني معترضاً بأنّ ما قدمته مغلف وغير مباشر ولم يشعر هو به، وبالتالي قد لا يشعر به عموم القراء، لذلك قرّرت أن أقدّم رؤية واضحة ومباشرة عبر هذا المقال للحلّ والخروج من هذا المأزق الاقتصادي الذي يلقي بتداعياته على حياة الغالبية العظمى من المصريين.
لقد أكدنا مراراً أنّ أسباب الغضب الجماهيري الذي شهدته غالبية الدول العربية في نهاية العام 2010 ومطلع العام 2011 لعبت فيه القوى الخارجية دوراً بارزاً، إلا أنّ ذلك لا يمنع التأكيد على أنّ التربة الداخلية كانت مليئة بالعديد من الأسباب التي ساعدت على اشتعال النيران بسهولة، وكان السبب الاقتصادي أحد الأسباب الرئيسية في تونس ومصر واليمن، وهو السبب الذي لا يمكن اعتماده في بلدان أخرى مثل ليبيا وسورية التي كانت أوضاعهما الاقتصادية مستقرة إلى حدّ كبير.
وعندما حاولنا مراجعة أسباب الحراك الجماهيري في مصر كنموذج للأسباب الاقتصادية وجدنا أنّ أهمّ تداعيات حراك 25 يناير/ كانون الثاني هى سياسات حكومات مبارك المتتالية التي أفقرت الغالبية العظمى من المصريين، وأثقلت كاهلهم بأعباء ضريبية تفوق قدراتهم، وقد تنوّعت وتعدّدت هذه الضرائب بشكل أذهل المصريين، فكلّ يوم كانت حكومات مبارك تقوم باختراع ضريبة جديدة لسلب أموال الفقراء مما جعل بعض الاقتصاديين يصفون الحكومات المصرية في ذلك الوقت بحكومات الجباية باعتبارها الوظيفة الأساسية التي تقوم بها الحكومات وتجيدها تاريخياً في ظلّ مجتمع نهري يعتمد على المركزية الشديدة، وللأسف كان الفقراء والكادحون والمهمّشون هم من يدفعون هذه الضرائب في الوقت الذي لا يدفع فيه الأثرياء أيّ ضريبة بل يتفنّنون في التهرّب من الأعباء الضريبية، وعندما كانت تتعالى بعض الأصوات منادية بضريبة تصاعدية كانت الحكومات تتعامى عن هذه المطالبات العادلة وتصمّ الآذان عن هذه الأصوات العالية التي يسمع صداها القاصي والداني.
وعندما قام حراك 25 يناير/ كانون الثاني 2011 كانت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في مصر قد وصلت إلى 41 % وفقاً لتقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، في حين كانت تشير تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أنّ النسبة لم تتعدّ 25 %، وسواء أخذنا بالتقارير الدولية أو المحلية فإنّ أوضاع المصريين كانت تنذر بقنبلة على وشك الانفجار، ولم تحاول الحكومة ومعها النظام السياسي برمّته احتواء الموقف خاصة مع تصاعد الاحتجاجات الفئوية التي سجلت أرقاماً غير مسبوقة في تاريخ المجتمع المصري خلال السنوات الثلاث الأخيرة من 2008 حتى مطلع 2011، وبالفعل كان البركان الذي اقتلع الحكومة ومعها النظام السياسي بأكمله، فعندما اندلعت شرارة الحراك كان الفقراء والكادحون والمهمّشون هم الوقود الحقيقي له، وكانوا هم الطوفان الهادر الذي اقتلع مبارك ورجاله الراسخين فوق كراسيهم من جذورهم، وكانت مطالب الغالبية العظمى من المصريين محدّدة في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية باعتبارها المطالب المشروعة لهم والتي لا يمكن لمخلوق الاعتراض عليها.
وبالطبع انتظر المصريون بعد انفجارهم في وجه مبارك ورجاله أن تتحسّن أحوالهم المعيشية، لكن ما حدث هو زيادة الأعباء وارتفاع الأسعار وتدهور أكثر في أوضاعهم بحجة عدم الاستقرار وأننا نمرّ بمرحلة انتقالية، وانتهت هذه الفترة وتحمّلها الفقراء والكادحون والمهمّشون بصبر، وجاءت جماعة الإخوان المسلمين لسدة الحكم لكن ما حدث هو العكس حيث ارتفعت معاناة الفقراء أكثر فأكثر مما جعلهم يخرجون على الجماعة ثائرين بعد أقلّ من عام وتمّت الإطاحة بهم، وظلت مطالب الفقراء نفسها كما هي العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، ووعدتهم الحكومة الجديدة بتحقيق مطالبهم بشكل تدريجي تحت الحجة نفسها وهي عدم الاستقرار والمرحلة الانتقالية. وصبر فقراء مصر صبر أيوب، ومرت المرحلة الانتقالية مع مزيد من الأعباء وارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال المعيشية وارتفاع نسبة الفقر لتصل إلى 45% يعيشون تحت خط الفقر و25% يعيشون فى حزام الفقر وفقاً للتقارير الدولية، في حين أنّ الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا يزال يحدّد الفقراء بنسب تتراوح بين 29% و32% زيادة أحياناً ونقصاناً أحياناً أخرى، لكن على الرغم من ذلك لا يزال عموم المصريين يشعرون بتردّي الأوضاع الاقتصادية. وهذا هو الأهمّ من الأرقام والإحصاءات سواء الرسمية أو غير الرسمية.
وانتهت المرحلة الانتقالية ودخلت مصر مرحلة الاستقرار لكن لا تزال السياسات الاقتصادية كما هي، بل إننا كل يوم ننام لنفيق على كابوس اقتصادي جديد، وكارثة جديدة بفعل السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة والتي تعتمد بشكل أساسي على القروض والمنح المشروطة. فالنظام لا يزال يسير وفقاً للسياسات الرأسمالية التابعة التي بدأها الرئيس السادات عبر سياسة الانفتاح الاقتصادي، وسار عليها الرئيس مبارك والتي تعتمد على مجموعة من السماسرة يديرون الاقتصاد الوطني لصالح المشروع الرأسمالي الغربي، هؤلاء السماسرة يقومون بسرقة ونهب ثروات الشعب المصري تحت مظلة قانونية داعمة وحامية لهم ولفسادهم، وتعدّ محاولة الاقتراب منهم أو محاسبتهم محفوفة بالمخاطر، لذلك وحين نبحث عن الحلّ للخروج من هذا المأزق الاقتصادي فلا بدّ من التأكيد على أنّ رحيل الحكومات ليس حلاً فقد رحلت حكومات عديدة دون جدوى. فالحلّ الناجع هو تغيير السياسات الرأسمالية التابعة بسياسات جديدة تسعى لترسيخ العدالة الاجتماعية، بحيث تصبّ السياسات في صالح تحسين الأوضاع الاقتصادية للغالبية العظمى من المصريين، وبذلك نقوم بحصار اليمين الرأسمالي الفاشي المنحط على حدّ تعبير عمّنا المفكر والكاتب الصحافي الكبير أحمد الجمال. اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى