أولى

شتاء أردني مرتفع الحرارة…

‭}‬ سعاده مصطفى أرشيد*
يمرّ الأردن بأوقات عصيبة، وهي وإنْ لم تكن مستبعدة على مَن يتابع الوضع الأردني، إلا أنها أتت على استعجال وسابقة للأزمة التي كانت تتوقعها الدولة الأردنية في الضفة الغربية، وافترضت أنها ستكون فتيل الأزمة في الأردن، ولكن اليوم تبدو الأزمة الأردنية هي التي ستتمطّى وتتطاول لتؤثر على الوضع في الضفة الغربية وعلى السلطة الفلسطينية.
في استحضار سريع للتاريخ القريب، وفي رمضان 1989 عانت الأردن من أزمة اقتصادية أعقبت نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ارتفعت الأسعار، وانخفضت مدخولات الدولة، وتراجع سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية، الأمر الذي دعا الحكومة لمعالجة الأزمة برفع أسعار مشتقات البترول، إثر ذلك اندلعت الاحتجاجات في مدينة معان التي سرعان ما تحوّلت إلى أعمال شغب، وأصابت العدوى مدناً وأماكن أخرى في المملكة، ووصلت إلى الاحتجاجات الطالبية في الجامعات، مما أدّى إلى تحوّل ذلك الحراك، من المستوى المعيشي المطلبي إلى المستوى السياسي، الذي يطالب بالإصلاحات الدستورية، وإعادة الحياة البرلمانية، وإطلاق الحريات العامة، وتنظيم الحياة السياسية من خلال قانون أحزاب.
في ذلك الوقت، كان الملك الراحل يقوم بزيارة رسمية للولايات المتحدة، بدعوة من الرئيس الأميركي بوش الأب، لكن إدراكه العالي لحجم الحدث، دعاه إلى قطع الزيارة التي كان يعلق عليها أملاً في تجاوز المحنة الاقتصادية، وعاد من فوره إلى عمان وأقال الحكومة (أو طلب من رئيسها تقديم استقالته)، واستجاب للمطالب الشعبية، وأعاد الحياة البرلمانية، وأجرى انتخابات عامة، فاز بها حشد من المثقفين والسياسيين الذين عرفوا بمعارضتهم للنظام.
في هذه الأيام عادت مدينة معان لتتصدّر الحدث، ولتنطلق منها إشارة البدء في الاحتجاجات وللسبب القديم ذاته، رفع أسعار المحروقات، لكن ثلاثة عقود فصلت بين الحدثين تغيّرت بهما أمور كثيرة، فالملك الماهر والمتمرّس بالأزمات لم يعُد موجوداً، والأجيال الجديدة في الأردن عموماً، وجنوبه خصوصاً، أصبحت معتادة على وسائل التواصل الحديثة، ولم تعُد تقبل بالعقد الاجتماعي القديم، الذي صاغه الآباء مع النظام، والأردن الذي غادره الملك مديناً بأربعة مليارات دولار، قد تجاوزت ديونه اليوم الأربعين ملياراً، مع أنه أضعف نفسه ببيع كثير من أصول وممتلكات القطاع العام كمناجم الفوسفات والإسمنت ومصفاة البترول والبوتاس وميناء العقبة ومطار الملكة علياء وغير ذلك كثير. فطبقة الفساد قد استشرست بما يفوق احتمال الاقتصاد الأردني، لدرجة أصبح الأردن وكأنه ثقب أسود قادر على التهام المال بسرعة قياسية، وهي نتائج سياسات رسل ورموز الحكم بعد رحيل الملك، والذين عبّر عنهم (باسم عوض الله) القابع اليوم في السجون، وتتمّ شيطنته وجعله كبش فداء لمرحلة كان هو واجهتها فقط، والتي أدّت إلى تراجع رعاية الدولة للقطاع العام ولسياسات الخصخصة.
لم يلاحظ الأردن أن لا مكان ذهب إليه الأميركان إلا وانتهى بالاتقسام والتفتت. العراق نموذج يُرى بالعقل والعين. والأميركي لا يمكن أن يكون وفياً لأحد من حلفائه، وغير مستعدّ لتثمين دورهم في خدمة مشاريعه، ومصير حسني مبارك ماثل للعيان، فهو لا يتعامل إلا مع القويّ الذي يناجزه ويصارعه ونموذجنا هنا أفغانستان، التي ذهب إليها ليقاتل طالبان فخرج منها متحالفاً معها.
قدّم الأردن للأميركان كل ما طُلب منه من تدريب لقوات أمنية عراقية وفلسطينية، ووقع اتفاقيات أمنية مع الأميركان دون المرور على البرلمان، تُعيد الأردن إلى أزمنة الاستعمار القديمة. وقف مع الغرب ضد العراق، ثم ضدّ سورية في الحرب التي هدفت إلى تحطيم سورية وتقسيمها، واستضاف غرف العمليات «موك» وغيرها، وأعلن مؤخراً حرباً على المخدرات التي يقول إنّ مصدرها سورية، فيما الإعلام الرسمي قد جعل منها قصة تطول، ولكن العالم يدور والمتغيّرات هي سمة السياسة. فالسعودية ـ الشريكة في الحرب على سورية في طريقها لإعادة العلاقة مع دمشق برعاية صينية روسية، فيما تبتعد بخطوات واسعة عن واشنطن، وتركيا أصبحت هي مَن تعلن عن ضرورة عقد قمة تجمع أردوغان بالرئيس الأسد، فيما يبدو أنه مصلحة تركية ـ روسية أكثر مما هو مصلحة سورية.
افترض العقل السياسي الأردني عام 1994، بأن توقيع اتفاق وادي عربة مع (إسرائيل) قد ضمن وجود الأردن كوطن نهائيّ، لكن (الإسرائيلي) البراغماتي اعتبر أن الاتفاق كأنه عقد بين الأردن ورئيس الوزراء (الإسرائيلي) في حينه إسحق رابين، أو مع حزب العمل الذي أصبح اليوم حزباً منقرضاً. واليمين الحاكم في تل أبيب يرى منذ القدم، أنّ الأردن هو حصة الفلسطيني من فلسطين البلفورية، وأنّ الأردن هو وطن الفلسطينيّ البديل حيث يجب أن تقوم دولته، ولا يرى في النظام الأردني صديقاً، وإنما ينتظر الفرصة والظرف المناسب لإزاحته لصالح الفكرة المذكورة آنفاً، ونحن اليوم على بعد أيام أو أسابيع لينتهي نتنياهو من تشكيل حكومته الأكثر تطرفاً في تاريخ دولته.
هل تصبّ الحالة المتوترة في الأردن، والمرشحة للانتشار إلى باقي المناطق في صالح تصوّر اليمين الإسرائيلي؟ قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن الصحيح أيضاً أن الدولة وأداءها هو المتسبّب الأول والطرف المسؤول الذي دفع بمواطنيه إلى هذا الخيار المرّ، وهل من سبيل لمعالجة هذه الحالة كما حصل عام 1989؟ لا أظن فلم تعد إجراءات كإقالة الحكومة، تفي بالغرض أمام جيل جديد يريد عقداً اجتماعياً جديداً، ولعل الطريقة الوحيدة الممكنة هي في مساعدات مالية سخية (إن وجدت)، تشرف على صرفها جهات صالحة وشفافة، ومثل هؤلاء موجودون حكماً في الأردن، ولكنهم خارج توليفة الحكم والقرار.
الدرس المستفاد أنّ مصيراً غير مبشّر بالخير ينتظر من لا يعتمد على شعبه وإنما على هذا الغرب المتوحش، وأن كل من يتهاون في معالجة قضايا الفساد سيكون من ضحاياها.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى