مقالات وآراء

كنتُ في سورية (1)

‭}‬ د. فخري مشكور
نجوت من الإعدام على يد نظام صدام في 25/12/ 1972 بهروبي في سيارة بيك أب تنقل البرسيم من البصرة الى الكويت يقودها شخص اسمه عبد الإمام لقاء مبلغ خمسين ديناراً عراقياً منتحلاَ صفة مساعد السائق (واسمه حمزة عباس منخي) الذي يحتفظ السائق بجواز سفره الذي دخلت به الى الكويت فشعرت بخروجي من السجن الى الحرية.
كانت أول سفرة لي خارج العراق، وكنت قد تخرجت من كلية الطب قبلها بستة أشهر، لم أمارس فيه الطب إلا فترة قصيرة في المستشفى الحكومي في كربلاء.
لكن ذلك الشعور بالحرية ما لبث ان تبدّل الى سجن للأشغال الشاقة، لأني دخلت الكويت بصورة غير قانونية، فكنت إنساناً مجرداً من الإنسانية لا يحق لي العمل ولا السكن ولا التنقل ولا قيادة السيارة ولا حتى قيادة نفسي في بلد خليجي يقوم على تقسيم غير الخليجيين الى درجتين:
– بشر من دول الناتو: له كلّ الحقوق
– وبشر من خارج دول الناتو: لا يحقّ له شيء ولو كان جاراً عربياً مسلماً هارباً من الموت لا يطلب الا النجاة.
بقيت في الكويت أخفي شخصيتي وشهادتي كطبيب، واضطررت أن أشتغل عاملاً أمّياً لا يقرأ ولا يكتب في مهن شاقة ورخيصة الأجر لا تكاد تشبع جوعتي، وأسكن في سكن جماعي بدون تكييف في صيف يشوي الوجوه تحت شمس تذيب الدماغ داخل الجمجمة.
بعد عدة عمليات فاشلة للحصول على جواز سفر تمكنتُ من خداع السفارة العراقية وحصلت على جواز سفر بصفتي عاملاً أمّيّاً يتيماً دخل الكويت بصورة غير مشروعة لغرض العمل وإعاشة أمه الأرملة وأخيه القاصر.
وبمجرد الحصول على جواز السفر قررت الخروج من الكويت الى سورية بتاريخ 28/11/1973 وقد وضعت حرب أكتوبر أوزارها.
***
في سورية صدمني الشعور بالحرية لأول مرة في حياتي في المطار حين لم ينظر ضابط الجوازات لي شزراً ليعرف بالضبط من أنا؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وماذا أريد أن أفعل في سورية؟ وأين أقيم؟ وماذا أعمل؟ ومتى أخرج؟ ومن أعرف؟ ومن يكفلني؟ ومن يزكيني؟
كلّ الذي فعله ضابط الجوازات في المطار هو أن ختم جواز سفري وناولني إياه دون أن يخبرني بالمدة التي يحقّ لي فيها البقاء في سورية، وهل عليّ أن أراجع دائرة من دوائر الدولة (إدارة الهجرة، الشرطة، الخارجية، الداخلية…) ولما سألته عن المدة المسموح لي بها بالإقامة في سورية أجانبي باختصار: «أدّ ما بدّك».
***
سبّبت لي الحرية التي تمتعت بها في سورية إزعاجاً لبعض الوقت، فقد خيّبت سورية آمالي وأنا أتجوّل في شوارع دمشق وأسواقها وأماكنها العامة حاملاً معي جواز سفري لكي أبرزه لأي رجل شرطة أو رجل أمن يسألني عن هويتي، فلم أجد!
وطفقت أسافر الى مختلف المدن السورية لعلي أعثر على من يسألني عن هويتي سواء على حاجز في الطريق أو في كراج قبل السفر أو في نقطة أمن بعده فلم أجد.
وخلال سنتين من الإقامة فيها لم تتحقق أمنيتي في إبراز جواز سفري لمن يسأل عن هويتي إلا على الحدود السورية اللبنانية.
تحوّلت خيبة الأمل هذه الى متعة لم أعرفها في العراق فصرت أمارس متعتي في النهار (التجول بدون هوية).
أمّا في الليل ـ وخلال سنتين كاملتين ـ فقد تمتعت بالنوم المتواصل بدون قلق او أرق، لا أخشى زوّار الليل الذين يداهمون البيت لإلقاء القبض عليّ ـ كما هو الأمر في عراق صدام.
كنت أعرف تماماً انّ النظام الحاكم في سورية هو نظام بعثي علماني، وانّ السلطة هي سلطة حزبية عقائدية يمسكها نظام أمني محكم، وكانت تخيّم على عقلي صورة النظام البعثي الأمني في العراق في ظلّ صدام وتعمل كنموذج (مسبق الصنع) أقيس عليه النظام السوري… لكني لم أجد في سورية ما عشته في النظام البعثي في العراق من كبت مطلق للحريات، وتكميم محكم للأفواه، ومراقبة صارمة تحصي أنفاس العباد وتلاحق المشكوكين منهم في الوديان والصحاري والسهول والجبال حتى تصطادهم فإذا وقعوا في قبضتها أفنوهم من الوجود بعد انتزاع الاعترافات منهم على تابعيهم وتابعي التابعين يستدعونهم للحساب في الهزيع الأخير من الليل حتى إذا أثخنوهم شدّوا الوثاق ثمّ خيّروهم بين التوبة وبين القتل… ولا يُقبل منهم شفاعة ولا عدل ولا هم يُنصرون.
مع هذه الصورة كنت في سورية أختلط بالناس والتجمعات وألتقي بالأصدقاء لقاءاتٍ خاصة وعامة وألاحظ انّ الكثيرين ينتقدون السلطة وسياستها والحزب وقياداته والرئيس وحوارييه دون أن يخشوا تلك الخشية التي أعرفها في العراق.
كنت أسمع من النكات السياسية التي تنال من الدولة والحزب ما كنت أخاف أن أنقله ولو على سبيل النكتة، لكن السوريين لم يكونوا يخافون. خذ مثلاً هذه النكتة التي سمعتها من صديق في عام 1975 بعد الاستفتاء الذي صوّت به السوريون على رئاسة حافظ الأسد مدى الحياة:
(دخل أحد المشاركين في الاستفتاء الى مركز الاقتراع قلقاً طالباً المساعدة العاجلة قائلاً:
أريد ورقة اقتراعي… أخرجوها لي من الصندوق فوراً،
ـ لماذا؟
ـ أريد ان أصححها… لقد اشتبهت فوضعت علامة الرفض بدل علامة القبول.
ـ لا يمكن إخراج الورقة من الصندوق.
ـ لا بدّ أن تخرجوها بأيّ ثمن، أنا موافق على تمديد الرئاسة مدى الحياة لكني بالخطأ وضعت علامة الرفض.
ـ لا يمكن… لا يمكن… اذهب من هنا،
لكن الرجل رفع صوته وأحدث دوشة استدعوا على اثرها مدير المركز ليحلّ المشكلة، وجاءه المدير وبعد ان استمع اليه باهتمام قال له:
– إهدأ وكن مطمئناً، عد الى بيتك ولن يكون الا ما تحب.
– كيف؟
– هناك الكثير الكثير من امثالك المشتبهين، وسوف نفتح الصندوق بعد انتهاء مدة الاقتراع ونصحح جميع الأوراق الخطأ).
بعد دراسة مستفيضة لهذه النكات والكثير من التصرفات التي لم أكن أصدّقها لو أخبرني بها أحد وأنا في العراق، وبعد نقاشات مع معارضين من تيارات مختلفة ومنهم صديق لي من الاخوان المسلمين (المرحوم الاستاذ حامد الخطيب في درعا) توصّلتُ الى النتيجة التالية:
1 – ان تنتقد بلسانك دون ان تفعل شيئاً فهذا أمر عادي لا يكترث به أحد، اما إذا تحركت لتجميع الناس ضدّ الحكومة فهذا له حساب آخر.
2 – لو كنت تملك تنظيماً يخطط لاستلام السلطة من النظام فسوف يكون حسابك عسيراً، لكن الحساب يقتصر على الفاعلين فقط ولا يشمل ـ كما في العراق ـ آباءهم وأبناءهم واخوانهم وأزواجهم وعشيرتهم وأموال اقترفوها وتجارة يخشون كسادها ومساكن يرضونها.
بعدما وصلت الى هذه النتيجة قرّرت ان أختبر الأمر بنفسي وأكتب نقداً علنياً للنظام السوري وأنشره لأرى النتيجة.
فماذا فعلت؟
هذا هو موضوع الحلقة المقبلة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى