مقالات وآراء

لبنان في قبضة الشيطان وتفاصيله…

‭}‬ أحمد بهجة*
مما لا شكّ فيه أنّ استمرار التأزّم السياسي وعدم اكتراث المسؤولين، وفي ظلّ الانهيار المالي والاقتصادي، يجعل مسلسل سقوط الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي متواصلاً من دون معالجات، ولذلك ربما لا يخطئ القائلون بأنّ سعر الصرف قد يتخطى سقوفاً غير متوقعة خلال الأشهر المقبلة، مثلما ورد في تقرير بنك «أوف أميركا» الذي توقع تجاوز سعر الصرف الـ 100 ألف ليرة في كانون الثاني عام 2024.
لقد هوَت العملة اللبنانية في الأيام القليلة الماضية بشكل دراماتيكي، وتخطّى سعر صرف الدولار في السوق السوداء الـ 50 ألف ليرة، وسط مؤشرات تشي بمزيد من الارتفاعات من دون سقف محدّد في الأشهر المقبلة إذا استمرّ التأزّم السياسي والفراغ الرئاسي، لأنّ عودة الثقة بالليرة مرتبطة بهيبة الدولة وبرنامجها وخطتها الاحتوائية والعلاجية.
ولذلك نرى أنّ الوضع على الصعيد المالي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي يبدو أشدّ سوءاً… إذ لا تظهر أيّ معالم جدية للجم اندفاعات سعر الدولار في السوق السوداء حيث تجاوز الـ 51 ألف ليرة فيما أسعار المحروقات ترتفع باضطراد بدورها وكلّ ذلك سيؤدّي إلى انعكاسات خانقة جديدة على كلّ المستويات المعيشية واشتعال الأسعار الاستهلاكية.
إنّ أبسط واجبات المسؤولين عن الحكومة اللبنانية أن يجدوا المعالجات المناسبة لهذا الانسداد، خاصة أنّ هناك عروضاً اقتصادية وإنمائية من عدة دول شقيقة وصديقة من شأنها إذا تجاوبت معها حكومتنا «المبجّلة» أن تعزز وضع العملة الوطنية وتحلّ الكثير من المشاكل التي لا يمكن أن تنتظر انتهاء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي لا تشكل الحلّ المنشود والمتكامل، لأنّ ما يطرحه الصندوق هو إمدادنا بنحو ثلاثة مليارات دولار خلال أربع سنوات، من دون أيّ خطة أو جدول بشأن كيفية ووجهة صرف هذا المبلغ، بما يعني أنّ هذا المبلغ سيذهب في سياق سياسة الاستهلاك القائمة والتي أحرقنا فيها الكثير من المليارات منذ ثلاثين سنة حتى اليوم. وهذا السيناريو المصري ماثل أمامنا بكلّ تفاصيله وتداعياته السلبية التي قد توصل «هِبة النيل» إلى وضع لا تُحمد عقباه…
وهنا لا بدّ من التحذير من عواقب استمرار إهمال الحلول الجدية في لبنان، لأنّ الناس لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من المماطلة والتأجيل، وبات من المُلحّ جداً أن تتخذ الحكومة القرارات العلاجية المناسبة وأن تأخذ هذه القرارات طريقها إلى التنفيذ، علماً أنّ العلاج متوفر وموجود والعروض الصينية والروسية والإيرانية جاهزة، وتحتاج فقط إلى رجال دولة قادرين على تحمّل المسؤولية واتخاذ ما يلزم من قرارات.
ويعرف الجميع أنّ الانهيار الكبير الحاصل منذ أكثر من ثلاث سنوات، والذي تزداد وتيرته يوماً بعد يوم لا يمكن أن يعالَج بالمسكنات، بل يحتاج إلى علاج قد يكون قاسياً في المرحلة الأولى ولكن لا بدّ أنّ نستأصل العلة من أساسها لكي نوفر سبل التعافي الحقيقي لاقتصادنا ولبلدنا.
وهنا لا يمكن تبرئة المصرف المركزي من هذه الجرائم، ومن تفلّت شياطين التفاصيل بفعل شيطان أكبر سمح بهذا التفلّت في سعر صرف الدولار وتركه بلا سقف، فهذا المصرف وحاكمه ومعه مَن معه من سياسيين وأصحاب مصالح كبرى وإعلاميين وبعض رجال الدين الذين يرسمون الخطوط الحمر… هؤلاء جميعاً مسؤولون بشكل مباشر عن الكارثة الكبرى التي يعيشها اللبنانيون اليوم.
والكارثة الأكبر أنهم يحاولون تصوير الأزمة كأنها بلا أفق وأن لا حلول لها إلا بالاستسلام لإرادات خارجية تبرز واضحة في عرقلة استيراد الغاز من مصر والكهرباء من الأردن عن طريق سورية، لأنّ مصر والأردن ينتظران إشارة إيجابية من الولايات المتحدة بإعفائهما من موجبات «قانون قيصر» حتى يبدآن بتنفيذ ما التزما به في الاتقاقيات التي تمّ إبرامها مع لبنان نتيجة الجهود الجبارة التي بذلها وزير الطاقة الصديق الدكتور وليد فياض مع نظرائه في كلّ من مصر والأردن وسورية.
ثم ها هي الهبة الإيرانية من الفيول جاهزة للإبحار إلى لبنان، ولا يحتاج الأمر أكثر من شهر حتى تصل البواخر وتفرغ حمولتها لتبدأ الاستفادة منها وزيادة ساعات التغذية إلى 8 أو 9 ساعات يومياً، وهو ما ينتظر قراراً حكومياً جريئاً يضع جانباً كلّ التهديدات والخطوط الحمراء ولا ينظر إلا لمصلحة البلد وناسه واقتصاده…
وإذا لم يفعل المسؤولون ذلك فلماذا هم مسؤولون إذن؟ ولماذا يستمرّون في مواقعهم طالما أنهم يلحقون الضرر بالبلد والشعب والاقتصاد؟ ألم يحن بعد أوان تنحية هؤلاء والإتيان بمسؤولين من طراز آخر…؟ هذا الأمر ممكن ومتاح داخلياً لكن البعض يفضّل دائماً أن تأتي الأمور من الخارج معتقداً مثلاً أنّ ما يفعله الوفد القضائي الأوروبي هو أحد سبل الإصلاح المالي والاقتصادي، متناسياً أنّ الفاسدين في لبنان ما كانوا ليتمادوا بهذا الشكل لولا أنهم محميّون من خارج ما، ربما يكون أقوى من القضاء الأوروبي، وهذا ما يجعلهم مطمئنين ويواصلون عملهم وارتكاباتهم من دون أن يرفّ لهم جفن كما قال أحدهم سابقاً…!
*باحث وخبير مالي واقتصادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى