الرئيس سليم الحص… نموذج فريد في العمل السياسي اللبناني*
} رفعت ابراهيم البدوي*
يفتقد شباب الجيل اللبناني والعربي الطالع، الى معرفة الرئيس سليم الحص حق المعرفة، إلا من خلال سماع او قراءة سيرته المعروفة بالنزاهة والتعفف، المليئة بالمواقف الوطنية والعربية المشرّفة، من دون التعمّق في فكره ورؤاه في قراءة الأحداث وتحليلها، إضافة الى مفهومه الخاص، في كيفية ممارسة السلطة وإدارة مؤسسات الدولة.
شخصياً اعترف أمامكم انّ الله منحني نعمة ملازمة الرئيس الحص، وهو الذي رفدني بدروس خاصة وزوّدني بالرؤى الواسعة وبحكمة التدبّر وبحنكة الممارسة ما أكسبني ثقافة فريدة غيّرت نمط تفكيري وأفسحت الطريق أمامي للدخول الى عالم مختلف لم أكن لأدخله في حياتي حتى لو أنني قصدت تحصيل هذا العلم من أفضل جامعات العالم، أو لأدخل هذا العالم الفاضل المبني على الأخلاق العالية والنزاهة النادرة والإنفة غير المألوفة والإنسانية المرهفة والعلم الرفيع والثقافة الغنية… كلها أمور ألزمتني اتّباع مسار يليق بالوفاء لتعاليم ومبادئ وقيم وسيرة الرئيس الدكتور سليم الحص الذي سأبقى وفياً له طوال حياتي…
يشهد كلّ من عاش تجربة الرئيس الحص وعاصر فكره، أنه لم يمارس السلطة لأجل السلطة او التسلط، بل سخرها لأجل رفعة الإنسان وكرامته جامعاً بين السلطة والإنسانية، لذلك اطلق عليه لقلب الرئيس الإنسان، وأنا شخصياً وبحكم ملازمتي له وضعتُ كتاباً بعنوان «سليم الحص بين السلطة والإنسانية»، (لم يُنشر بعد)، ضمّنته بعضاً من مواقفه الإنسانية التي صادفته خلال فترات رئاسته للحكومة، وكيفية معالجتها، من دون تجاوز للقوانين المرعية، قدّم خلالها العون للكثير ولم يأت على ذكرها في ايّ من كتبه.
الرئيس سليم الحص، في عمقه الرؤيوي، وفي أبعاده الثقافية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، عوامل جعلت من الرجل نموذجاً فريداً بين رجالات السياسة في لبنان، وحتى في الوطن العربي، وهو الذي أرسى قواعد ممارسة السلطة، على أساس احترام القوانين بديمقراطيته المزعجة لمعظم الطبقة السياسية، (ولا أبالغ بالقول حتى المقرّبين منه)،
الرئيس سليم الحص يكاد يكون الوحيد بين رؤساء حكومات لبنان الذي ينطبق عليه مقولة الرئيس الذي هبط على السياسة او على رئاسة الحكومة بالمظلة (هو نفسه يقول ذلك)، كان ذلك في عهد الرئيس الياس سركيس 1976 نتيجة الصدفة والزمالة التي جمعت بينهما في مصرف لبنان.
تحربته الأولى في ترؤسه للحكومة كانت في عهد الرئيس الياس سركيس لكن وبرغم الصداقة المتينة الا أنّ السياسة والمؤثرات الطائفية حالت بين الرئيسين سركيس والحص الذي عاش تجربة مريرة لخصها في كتاب بعنوان (عهد الأمل والخيبة).
في عهد الرئيس أمين الجميّل
كانت محاولة الاغتيال الآثمة في صباح عيد الأضحى المبارك عام 1984 لكن مشيئة العزيز القدير أخرجته سالماً ونجا من الموت بأعجوبة إلهية، وفي نهاية ذاك العهد فشلت وساطة المرحوم داني شمعون القائمة على تولي الرئيس سليم الحص رئاسة الحكومة وإدارة شؤون البلد، وذلك حسب نص الدستور، ولكن فوجئ بإعلان الرئيس الجميّل تشكيل حكومة عسكرية وهاله ما سمعه انّ الرئيس الجميّل يرفض تسليم لبنان إلى مسلم! وانتهى الأمر بما عُرف يومها بالحكومتين ذكر الرئيس الحص تفاصيل المرحلة في كتابه (عهد القرار والهوى).
إصدارات وكُتب الرئيس سليم الحص العديدة، وثّقت بكلّ أمانة مراحل ترؤسه خمس حكومات لبنانية ما بين عام 1976 وصولاً لآخر حكومة في عام 2000، حينها أعلن اعتزاله العمل السياسي اللبناني، مكرّساّ اهتمامه للعمل الوطني، وذلك اثر إسقاطه في الانتخابات النيابية بواسطة شراء الأصوات الانتخابية بالمال الفاسد والمفسد. مفنداً تلك الحقبة في كتابه (للحقيقة والتاريخ).
وعلى الرغم من انتكاسة الانتخابات النيابية،. ظلّ الرئيس سليم الحص ملتزماً القضايا القومية والعربية، يبحث عن سبل تعزيز مبدأ التعاون العربي المشترك، داعياً الى إنشاء سوق عربية اقتصادية مشتركة، على غرار السوق الأوروبية المشتركة، مقتنعاً بمبدأ تشبيك مصالح الشعوب والدول العربية، الذي من شأنه تعزيز أواصر اللحمة بين العرب…
لم يمارس الرّئيس الحصّ السّياسة، بالمفهوم التّقليديّ المتعارف عليه بين غالبيّة اللّبنانيين، والقائم على كثير من التزلّم الشّخصيّ، او الاحتماء بطائفته، أو الاختباء في أغوار انتماء جغرافيٍّ مناطقيٍّ؛ بقدر ما عاش الوطنيّة ورعاها، بكلّ سلوكيّاته العامّة والخاصّة.
ولطالما زكّى الرّئيس سليم الحصّ، كلّ ما هو وطنيّ على حساب ما كان له فيه مصلحة سياسيّة، مستجيباً للقيَم الوطنيّة ومفاهيمها التي يرتئيها؛ إلى أن وصل فيه الحال، إلى مرحلة كان فيها رئيساً للحكومة، لكنه أمام اعتراض معظم أعضاء مجلس الوزراء، عجز عن إقرار قانون جديد للانتخابات النّيابيّة، محترماً نتيجة التصويت، الذي جاء معارضاً، مكتفياً بتسجيل اعتراضه بديمقراطيته المعهودة، ثم اعتمد القانون الانتخابي المعاكس لقناعاته ورغباته.
وكم تجشّم عناء الصّبر على كلّ ما مرّ به من أزمات وخيبات حرصاً منه على مبدئيّة العمل الوطنيّ، وعلى مبدأ الالتزام بالمواطنة واحترام القوانين وممارسة الديمقراطية، تماشياً مع قناعاته وهو القائل «من الطّبيعي أن يتصرّف المرء مع «القضيّة»، على أنّها المبدأ الذي لا يمكن الفكاك منه؛ كما أنّه، من المفترض أن يتصرّف المسؤول مع «الأزمة»، سياسية كانت أم اقتصادية أو أمنية، على أنّها قضية وطنية تصيب كلّ الوطن، ولا بدّ من التّخلّص منها، بالعمل على إنهائها من أجل طمأنة المواطن…
ربما يتساءل البعض او الجيل الطالع عن سبب حيازة الرئيس الحص على هذا القدر من الاحترام والتقدير والاهتمام ليس في لبنان وحسب بل عند كلّ من عرف الرئيس الحص وتعامل وتحاور معه في الوطن العربي وحتى في دوائر القرار العالمي.
لعلّ من أبرز ميزات الرئيس سليم الحص انه محاور بارع صاحب رؤية سياسية اقتصادية استراتيجية، نابعة من خلفية وطنية، برؤية واقعية ومتأنية وصائبة، ثبُتت صحتها في معظم المفاصل ومع مرور الأيام وتقلب الزمن، مقامها الأول، مصلحة الوطن والمواطن، الالتزام بالهوية العربية وإيلاء الاهتمام بالمتغيّرات المحيطة بلبنان وانعكاسها على الداخل…
يقول الرئيس الحص… أعتبر نفسي لبنانياً عروبياً، أعتزّ بلبنانيّتي وعروبتي معاً. ويحدوني اعتقاد راسخ أنّ طريق لبنان إلى العروبة تمرّ بالضرورة في دمشق، وذلك باعتبار ما يشدّ البلدين الشقيقين من أواصر الجِوار والقُربى والمصالح المتشابكة والمصير المُشترك. كنت دوماً على ما أعتقد مُخلِصاً كلّ الإخلاص لهذا المفهوم للعلاقة مع سورية، فلم أخلّ به يوماً ولم أُفرّط فيه أبداً…
يقول الرئيس حسين الحسيني الذي تشارك مع الرئيس الحص في الكثير من المحطات الوطنية… انّ الرئيس سليم الحص يمتلك قدرة فائقة على الحوار والإقناع بالاستناد الى التاريخ والحقائق، ويحاجج بأناقة سياسية نادرة،
يضيف الرئيس الحسيني أما في ما خص القضية الفلسطينية وتعديات العدو «الإسرائيلي» على جنوب لبنان ترى الرئيس الحص هجومياً شرساً وكأنه لبس البزة العسكرية… كيف لا والرئيس الحص صاحب القول (انّ سلاح الموقف هو أمضى سلاح).
أسس الرئيس الحص المؤسسة العربية لمكافحة الفساد 2005، وأصرّ على تسجيلها بلبنان رغم تقديم عرض البعض لتسجيلها بلندن تجنباً للبيروقراطية السائدة، وبظرف أسبوع واحد حصلت المؤسسة على علم وخبر لمزاولة أعمالها في لبنان، هنا تقدّم احد المؤسّسين سائلاً الرئيس الحص كيف حصلت على الإذن بهذه السرعة، (رشوتهم)!
يقول الرئيس الحص انّ الخبر في لبنان صار عبارة عن وجهة نظر بلا ضوابط، وكم آلمه خلط الطائفية والمذهبية بالسياسة، هدفه تشكيل درع لأصحاب النفوذ، يتلطون خلفه، من أجل الحفاظ على مكتسباتهم ومراكزهم.
في العيش المشترك
يقول الرئيس الحص… انّ ميثاق العيش المشترك، لا يمكن تطبيقه إلا إذا اقتنع اللبنانيون، أنه الوسيلة الأفضل للحفاظ على لبنان الحاضر والمستقبل، فالعيش المشترك، هدفه كان ولا يزال، التوافق على قيام دوله توفر الأمن والاقتصاد والاستقرار وشروط العيش الكريم، لكلّ اللبنانيين وبغضّ النظر عن انتماءاتهم الطائفية او الحزبية، وبذلك نستطيع مصالحة الدولة مع المواطن وبالعكس صحيح.
حظر بيع الذهب
رفض الرئيس الحص على الدوام تسييل الذهب معتبراً انّ الحفاظ على الذهب من الأسس لبقاء لبنان واستمراره، وهنا لا بدّ من الإشارة الى التعاون الوثيق بين الرئيسين الحسيني والحص لوضع قانون حظر بيع أو رهن الذهب الموجود لدى مصرف لبنان او الموجود في أميركا.
في اللامركزية الإدارية
في العام 1977، وفي مقابلة تلفزيونية تحدث الرئيس الحص عن رؤيته الى تطبيق اللامركزية الإدارية،. وذلك بعد صدور كتابه بعنوان (اللامركزية الإدارية ومسألة تطبيقها في لبنان)،
وفي اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عُقد في بيت الدين عام 1978 شدّد الرئيس الحص على أهمية تطبيق اللامركزية الإدارية، وعلى نطاق واسع لكن بالمفهوم الإداري فقط،، مؤكداً، ضرورة المحافظة على وحدة الدولة، ومؤسّساتها ومركزية قرارتها، السياسية والأمنية والاقتصادية والميزانية العامة من دون المساس بوحدة الأجهزة الامنية، والمناهج التربوية، والأخذ بمبدأ اللاحصرية في عمل الإدارات والمعاملات.
في كامب ديفيد
هاله اتفاق كامب ديفيد وقال… راح أكبر عمود عربي ويا خوفي على باقي العواميد.
وكان الرئيس الحص أول من أدان اجتياح العراق للكويت 1991، وأصدر بيان الإدانة الأول في العالم أثناء مشاركته جلسة وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وقبل صدور البيان الختامي لاجتماع الجامعة العربية.
الرئيس سليم الحص قبل وبعد تأسيس ندوة العمل الوطني وترؤسها كان أول من طرح فكرة قانون انتخابي يضمن صحة التمثيل قائم على اعتماد لبنان دائرة واحدة على أساس النسبية، لافتاً الى إمكانية اعتماد مبدأ النسبية في المحافظات الخمس إذا تعذّر اعتماد لبنان دائرة واحدة.
استقلالية القضاء
الرئيس الحص جند طاقاته في سبيل استقلالية القضاء وعمل على وضع قانون لتحقيق ذلك.
أذكر أنه في إحدى المرات وضع توقيعه على تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى بدون وجود قاض سني ما أثار حفيظة فريق سياسي وكان ردّه انّ مصلحة القضاء يبجب ان لا تتوقف لمجرد عدم العثور على قاض سني او ماروني لأنّ في ذلك مصلحة البلاد والعباد والدولة ولمصلحة استمرار عمل القضاء.
الرئيس الحص كان يقول انّ ينتظم عمل القضاء باستقلالية تامة وبعيداً عن ايّ تأثيرات طائفية او مذهبية فاحترام القوانين واجب وطني مهما كانت شرعة ونوع القانون، ولا يجب اختلاق او تبديل القوانين لمجرّد ان لا يتناسب مع مصالح البعض، فالرئيس الحص ألزم نفسه باحترام القوانين رغم عدم اقتناعه بالبعض منها.
الرئيس الحص الوحيد بين الرؤساء الذي اعطى الدولة اللبنانية ولم يأخذ منها ولم يسع لتحقيق مصالح شخصية على حساب الدولة لأنه جزم بنظريته القائلة لمجرد ان تطلب لنفسك منفعة شخصية فأنت دخلت معترك المحاصصة وصرت ضعيفاً وهو صاحب القول (يبقى المسؤول قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه)
في الختام استطيع القول انّ الرئيس سليم الحص أرسى نمطاً فريداً في الحكم قائماً على النزاهة والتعفف والإنفة والإدارة الحكيمة والإرادة الوطنية بفلسفة المفكر النقي ببعد عربي خالص مؤمن بالقضية الفلسطينية ومدافع عنها بشراسة وعزم حريص وضنين على المقاومة الفلسطينية، كما انّ الرئيس سليم الحص شكل خلال فترات حكمه خط الدفاع الأول عن المقاومة اللبنانية في مواجهة العدو الصهيوني…
*كلمة ألقيت في ندوة حول فكر الرئيس سليم الحص في مركز «سونار» الإعلامي
**مستشار الرئيس الدكتور سليم الحص، رئيس ندوة العمل الوطني