أولى

التصدّي للنهج الطائفي ممرّ إلزامي لإنقاذ لبنان

‭}‬ بشارة مرهج*
في معظم النزاعات الداخلية التي تشهدها البلاد، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، نجد ميلاً لدى معظم المتنازعين لاستخدام العامل الطائفي في النزاع واستغلاله بشتى الوسائل لتحقيق المبتغى.
فعندما يكون النزاع سياسياً وتنقسم الأجواء بسبب منطلقات أو معتقدات سياسية مختلفة يقوم أطراف النزاع، عادة، باللجوء إلى مرجعياتهم الطائفية لتعزيز مواقعهم في النزاع، أو تعطيل الملاحقة القانونية عندما يلوح خطرها. فجأة تبرز الطائفة ومرجعياتها طوق نجاة لتفادي الإدانة والإفلات من العقاب.
حتى في النزاعات الاجتماعية والتجارية والعقارية وسواها من النزاعات لا يتورّع أفرقاء عن دقّ أبواب الطائفية واستخدامها لتحقيق الأرباح أو التلطي خلفها طلباً للحماية.
فالطائفية لا تزال طاغية في حياتنا العامة عميقة الجذور في مجتمعنا تلعب دوراً ملموساً في تعطيل القانون وعرقلة المحاسبة وإشاعة الفوضى في المجتمع، خاصة عندما يعمد أحد الأطراف إلى التركيز على امتيازاته أو ما يعتبرها حقوقاً مكتسبة له دونما اعتبار للعدالة أو الميثاقية التي ترعى الحياة العامة للبنانيين. وجوهر هذه الميثاقية المساواة بين المواطنين، والتعاون في ما بينهم تعاون أهل البيت الواحد، وحظر الاستقواء بالخارج، والحرص الشديد على نمو واستقرار العلاقات مع الدول العربية الشقيقة، خاصة سورية الجارة الأقرب، والنضال الدؤوب لحماية استقلال لبنان وحريته، ومحاربة أيّ نزعة لاعتباره ممراً أو مستقراً لتحركات الاستعمار ومناوراته، مع تمسك مطلق بالتضامن العربي وحقوق الشعب الفلسطيني ومقاومة كلّ عدوان صهيوني يستهدف لبنان سواء كان عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً.
والمستجير بالعصبيات الطائفية لا يخرج عن جوهر الدستور والميثاق فحسب، وإنما يخرج أيضاً عن روح الوحدة الوطنية والوشائج العربية التي تقضي بمناهضة من يحتلّ أرض فلسطين عنوة ويجعل من اضطهاد شعبها وانتهاك مقدساتها عمله اليومي بغية الوصول إلى مراحل متقدّمة في مشروعه العنصريّ الهادف إلى إفراغ الأراضي المقدّسة من شعبها وتحويلها إلى مملكة يهودية خاصة تحترف العداء لمحيطها وتعمل لإخضاعه واستتباعه.
ومن هنا يصحّ القول إنّ إطلاق العنان للعصبيات الطائفية وتذخير المواقف السياسية بشحنات طائفية مكشوفة أو مستترة يدلان على ضعف إيمان الفاعل بوطنه والمبادئ الأخلاقية التي ينبني عليها، كما يدلان على استخذاء أمام عدو يباهي بتفوّقه «وحقوقه» المزعومة في قهر الشعوب وانتهاك استقلالها والسيطرة على مصالحها. وكلّ ذلك ليس من صفات اللبناني الذي يعتز ببلاده وأهله وأمّته ويعتبر إخلاصه لأرضه وتراثه وسمعته أغلى من أيّ علاقة عابرة مخزية سبق أن اختبرها البعض ولاقوا من جرائها الانكسار والخذلان. وعلاوة على ذلك فإنّ الخضوع للأجنبي، و»الإسرائيلي» خاصة، لم يثبت مرة أنه خدم لبنان أو راعى مصالح شعبه، وإنما أفضى دائماً إلى استخدام لبنان ورقة في الصراع المحتدم في المنطقة مثلما أدّى إلى انقسام لبناني داخلي وتسميم خطير للعلاقات اللبنانية العربية.
فالاستعمار الذي اغتال الملايين في الجزائر والعراق وسورية وفلسطين وسائر الدول العربية لا يهمّه سوى مصالحه، فيما الكيان الصهيوني يناصبنا العداء ويشنّ علينا الحروب منذ كان جنيناً تنمو مخالبه في أحضان الانتداب البريطاني لفلسطين.
إنّ رؤية الواقع كما هو أفضل بكثير من التصورات الوردية والآمال الكاذبة. والقفازات الناعمة التي يبرزها العدو أحياناً لتضليل الأنظمة العربية وفرض التطبيع عليها قد تكون جذابة للبعض، ولكنها حتماً عاجزة عن مواراة الحراب الطويلة المتحفزة لملاحقة أطفال فلسطين وزجّهم في السجون. ولا يمكن أن تُخفي نزعة هذا العدو لتدمير المقدسات والمؤسسات الفلسطينية وزرع الافتراضات والمزاعم عن وجود مؤسسات لهم كذّبتها كلّ الحفريات التي قاموا بها منذ عشرات السنين حتى الآن.
إنّ تشريد الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم ومدارسهم وملاعبهم ومؤسساتهم التي عملوا عشرات السنين على بنائها وتحسين أدائها لتصبح فلسطين قبلة الأنظار في أدائها التربوي والصناعي والزراعي والسياحي، هي جرائم ترقى إلى جرائم الإبادة، إذ أين اعتدى هذا الشعب المناضل على الأمن والسلام الإقليميين حتى يستحق هذه الحرب الوحشية الضارية المستمرّة عليه بهدف حذفه من الوجود بأهله وتراثه وراياته وإنجازاته النوعية في عالم التربية والمعرفة.
ولمن لا يعرف أو يتجاهل فإنّ الظلم الصهيونيّ المتعاظم للشعب الفلسطيني لن يكون لبنان بمنأى عنه مستقبلاً مهما حاول أو ناور أو اتصل بالعواصم الكبرى التي تعوّدت على مداواة الوضع بالفتات أو الاستيعاب لتسهيل استمرار المشروع الصهيوني الذي لا يمكن فصله إطلاقاً عن المشروع الاستعماري الذي تقوده هذه العواصم ذاتها في منطقتنا العربية المليئة بالخيرات. علماً بأنّ العدو الصهيونيّ إذا نجح ـ لا سمح الله ـ في تشريد الفلسطينيين من جديد فليس أمامه سوى الدول العربية المحيطة، ومن بينها لبنان، لدفع الفلسطينيين إليها دفعاً كما جرى عام 1948 وعام 1967 وعام 1992 حينما تمّ ترحيل حوالي 416 شخصية فلسطينية من قطاع غزة الى لبنان، (مرج الزهور في البقاع الغربي).
ولبنان الضعيف، الممزق المسلوب الإرادة، سيكون المتضرّر الأول من تهجير الفلسطينيين من بلادهم، إلا إذا حزم أمره وقرّر التصدّي للنهج الطائفي ونهج الفساد ومنظومته العاتية، وقرّر أن يستعيد قراره ومؤسّساته ودولته القادرة على مقاومة الضغوط وإسقاط الخطط المعادية.
إنّ كلّ ذلك يستدعي من اللبنانيين رفض النهج الطائفي واستشعار الخطر الآتي وتحصين أوضاعهم لصدّه كما حصل عام 2000 وعام 2006.
ولذلك يجب تعزيز حركة الحوار بينهم، أو على الأقلّ العمل على تنظيم الخلافات وتفكيكها على قاعدة الحفاظ على وحدة البلاد ونظامها الديمقراطي، وعلى أساس تكريس الدولة المدنية وتحقيق استقلالية القضاء وإصلاح الاقتصاد واستعادة الأموال المنهوبة ومحاربة الفساد ومحاسبة أركانه وإعلاء شأن الكفاءة وتعزيز أجهزة الرقابة واعتماد المكننة والأتمتة في سائر أجهزة الدولة والعمل على تنفيذ أحكام الطائف ومعالجة ثغرات المهل الدستورية والقانونية بروح وفاقية جماعية بما يقطع الطريق أمام المزايدين أو الانفصاليين.
إنّ هذه الإجراءات والتحولات من شأنها المساهمة في وضع لبنان على سكة الحلّ وتحويل الخطة الصهيونية المبيتة إلى أضغاث أحلام، إذ لا شيء يضير العدو الصهيوني ويردّه خائباً إلا المجتمع اللبناني المتماسك الذي يتحصّن بالجيش والمقاومة ويعرف بالعمق حدود الخلافات والخصومات السياسية، ويدرك بالعمق أيضاً خطورة تجاوز هذه الحدود التي رسمت بالتضحيات الغالية.
إنّ هذه المعرفة هي صمام الأمان لبلادنا المتعدّدة الأطياف ودولتنا المهددة بالزوال. والسياسي اللبناني الحقيقي هو الذي ينشط ويناور تحت هذا السقف وضمن هذه الحدود الآمنة فلا يخطو خطوة واحدة تهدّد وحدة بلاده الداخلية أو أمنها أو استقلالها.

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى