أخيرة

نافذة ضوء

الوضوح مفتاح المعرفة
‭}‬ يوسف المسمار

 

كل كلمة تحتمل أكثر من اتجاه
كل كلمة ترد في قواميس لغات حياة الكائنات الإنسانية تحتمل معنيين رئيسيين في اتجاهين متناقضين لا سبيل إلى التوفيق بينهما، مهما اجتهد أرباب البلاغة، وعلماء الفصاحة، وفلاسفة البيان، وأدباء الخيال والمجاز. فمن أصغر كلمة «شيء» الى أكبر كلمة «إله»، نستطيع ملاحظة وإدراك هذه الحقيقة، ولا يمكننا تجاهلها ما دامت لنا حواس سليمة تساعدنا على تلمس فهم الأشياء، واستيعاب المعاني، واكتشاف المقاصد.
وكل كلمة أيضاً لا تعرَّف ولا تعيَّن تبقى دندنة على لسان، أو خطوطاً ونقاطاً على ورقة، أو حروفاً في كتاب لا فائدة منه ولا نفع. وكل شيء لا يفيد ولا ينفع يبقى وجوده كعدمه، وعدمه مثل وجوده، وقيمته بالنسبة للإنسان لا شيء.
الوضوح مفتاح المعرفة
قال العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده:
«كل لا وضوح لا يمكن أن يكون أساساً لإيمان صحيح، وكل لا وضوح لا يمكن أن يكون قاعدة لأي حقيقة من جمال أو حق أو خير، فالوضوح – معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة، هو قاعدة لا بد من اتباعها في أي قضية للفكر الإنساني والحياة الإنسانية».
فالوضوح، إذاً، هو مفتاح المعرفة، كما أن الغموض هو باب الجهالة.
فمن اختار الوضوح اهتدى وسار في طريق الهُدى دون وحشةٍ وخوف، وفاز فوزاً كبيراً. ومن خبط في الغموض ضلّ واستوحش وخاب وباء بالخسران.
فكلمة «إله» للذين اختاروا طريق الوضوح تعني العظيم أو العظمة التي تستهوي العقول التي لا تقنع بما كان، ولا بما هو كائن، ولا بما يمكن أن يكون، وحتى لا بما يجب أن يكون لأنها ترى أن ما يجب أن يكون بالنسبة لحالها الآن هو غير ما يجب أن يكون بالنسبة لما تصير إليه بعد جيل أو أجيال.
الإلهُ أو الله بالنسبة لها هو العظمة المطلقة اللامتناهية التي تجذب الإنسان إليها بحيث كلما بلغ ذروة من الإدراك الرفيع تراءت له في الآفاق البعيدة ذرى أعلى تطل على ذرى أسمى وأسمى وأسمى تُحرّضه وتُحرِّك همته ليتابع انطلاقه غير آبه بالمحن والصعاب وفظائع العراقيل. وهذه الألوهة العظيمة أو الإلهُ العظيم هو الواحد الأحد الذي يحرِّر الإنسان من أوهام عبادة الأشياء والطواطم والأصنام والأشخاص بنور العقل وهداه.
وكلمة الإله هذه تعني أيضاً كل الصفات والنعوت التي ترمز إليها الأسماء الجميلة الحسنى التي تُعبّر في معانيها الأعمق والأوسع والأسمى عن أحق وأعدل وأحكم القيَم التي يحتويها كمال الخلق والوجود والحياة.
وهو بهذا المفهوم الراقي، وبهذه القيَم العلية هو الإلهُ الخالدُ الذي لا يزول، والعظيم الذي تتجه اليه النفوس الجميلة التي كلما ازدادت معرفة ازدادت صلاحاً، وكلما تقدّمت وحققت رقياً ابتعدت عن الطلاح وهمجية التوحش وازدادت تقدماً ورقياً.
أما كلمة «إله» في مفهوم الذين تاهوا ويهيمون في صحاري الغموض، وتهافتوا ويتهافتون وراء سراب الأوهام والشبهات، فإن كلمة «إله» بالنسبة اليهم تعني «آلهة متعددة» بعدد أنانيات التائهين والهائمين. تتقاتل فيما بينها وتتنازع في صفاتها ونعوتها التي تقذفها على بعضها البعض بأقبح ما يكون من الأسماء والصفات وأسوأ وأردأ وأحقر ما يمكن تصوّره من المثالب التي تنطوي مضامينها على العمى النفسي، والهذيان الروحي، والخرف العقلي، فتكون هذه المضامين السيئة تعبيراً عن مسوخية «الآلهة – المسوخ» وضحالتها وحقارتها ورداءة النفوس التي تقيّأت واستفرغت هذه «الآلهة» ثم استعادت ما تقيأته وما استفرغته وبدأت باجترار مقرف لأحط المفاهيم، وأرذل الطقوس، وأقذر الأعمال. أنانيات تقاتل أنانيات، وفئويات تسحق فئويات، وطائفيات تدمر طائفيات، وأوبئة من المذهبيات تفتك بالمجتمعات.
ولا يُخفى على البصائر النافذة أن «آلهة – المسوخ» هذه وُلدت من رحم الغرائز الحقيرة والنزوات البهيمية والشهوات المُسممَّة، فنمت وكبُرت وفرَّخت وتكاثرت فخافها عابدوها وتصنّموا أمامها كما لو كانت هي خالقتهم وليسوا هم خالقوها ومجتروها ومتقيئوها أوهاماً وظنوناً وتخمينات تعيث في الأرض فساداً، وتحجب عن عيون الناس روعة عظمة خلق الله في إبداعه للوجود والحياة والكون والأسرار واللانهايات، حتى صار للدين في مفهومهم معنى نقيض المعنى الذي أراده العباقرة والنوابغ المتنورون المستنيرون من أبناء أمتنا في بلاد الرافدين والشام الذين عرفوا في التاريخ الحضاري باسم «السوريين»، أي الحكماء المتنورين المستنيرين المشعين على العالم معرفةً وحكمةً وهداية.
وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمات «سوري وسوريين» أي السائرين على هدى النور والممارسين للفضائل. ولذلك سميّت اللغة الآرامية بعد أن نطق السيد المسيح بها باللغة السورية التي تعني لغة وضوح وبيان: «النور والفضيلة» أي النور المتمازج بانسجام مع الفضيلة أو الفضيلة في تمازج منسجم مع النور، لأن كل نورٍ لا يهدي الى الفضيلة ناقص، وكل فضيلة لا تكون نورانية مشعة ليست كاملة.
وهي لغة السوريين بعد احتوائها على التعاليم الراقية التي أيقظ بها السيد المسيح روحية الأمة وأنعش ذاتها، ودُوّن بها القرآن الحكيم ورسالة النبي محمد العربي اللسان أي الفصيح البليغ الواضح البيّن ليستمرّ الكتاب منارة لذوي الأبصار الصالحين.
*شاعر وباحث قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى