أولى

غادة عون معيار قضايا

في التعليقات على قرار فصل القاضية غادة عون، يستطرد كثيرون للقول إنهم انتقدوا واعترضوا على ما وصفوه بأداء وسلوك، والتسييس في أداء القاضية عون، وفي أحسن الأحوال تمثل هذه الاستطرادات طلب تمايز في غير مكانه، أو أسباباً تخفيفية منشودة لإعلان رفض قرار الفصل كي لا يغضب الواقفون وراءه، أو جسر وصل معهم بتصوير الاعتراض مجرد إبراء ذمة واجب في شأن حقوقي فاقع، لذلك فالمقام لا يتيح المجال إلا لمقال واحد هو وضع القرار في نصابه الصحيح وتحديد الموقف منه على هذا الأساس، وجعل كل ما هو في الماضي للماضي وحده.
يسهل على أي قارئ في الملفات القضائية أن يقارن بين ما يقدّمه قرار الفصل من أسباب موجبة وما سجل في أداء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، الذي سطّر نصاً علنياً، يعلن فيه نفسه ملكاً متوجاً على رأس الجمهورية، لا يحدّ من سلطانه دستور ولا قانون ولا يقيم حساباً لهرمية أو تراتبية، ولا يخضع للإمرة أو للضوابط، واتخذ مواقف وسجل سلوكيات وأداء، وقال كلاماً بحق مراجع سياسية ودستورية وقضائية، بحيث يصبح كل المنسوب للقاضية عون هنات هيّنات لا يمكن التوقف أمامها، ويصبح القرار تعبيراً عن موازين قوى في السياسة، بين من استهدفهم القاضي البيطار الذي يتربّع على عرشه سلطاناً، ومن استهدفتهم القاضية عون، المفصولة بقرار تأديبي، من جهة، وبين مَن يحمي القاضي البيطار والمستمرّ في عزّ قوته وذروة حضوره، ومن كان يحمي القاضية عون وقد انتهت ولايته وغادر القصر الجمهوريّ.
ببساطة لا يحتاج المرء الى ذكاء ليكتشف بل الى حد معقول من النظافة الفكرية والمالية والأخلاقية، والى حد معقول من الشجاعة الأدبية، ليقول ما هو بديهي، أننا أمام انتقام سياسيّ ما بعد نهاية عهد الرئيس ميشال عون من القاضية التي أزعجت حاكم المصرف رياض سلامة والنظام المصرفي، أي أنه انتقام الدولة العميقة، التي ينتمي إليها البيطار وسلامة معاً، ولذلك نرى بوضوح كيف يقف رموز الثورة العميقة، التي تمثلها جمعيات المجتمع المدني وعدد كبير من نواب “التغيير”، وأحزاب وشخصيات تربّعت على عرش قيادة ثورة 17 تشرين، الى جانب البيطار وينظمون الحملات للدفاع عنه وتقديم الحماية، بينما يصمتون صمت القبور في قضية القاضية عون، والثورة العميقة تقرأ في كتاب واحد مع الدولة العميقة، وصحفهما وتلفزيوناتهما واحدة ولغتها جميعها واحدة، رياض سلامة ليس مسؤولاً عن الخراب المالي بل هو عبقري المالية اللبنانية، وطارق البيطار ليس قاضياً متمرداً وفاسداً وصاحب أجندة سياسية، بل هو رمز استقلال القضاء، ولا مشكلة في استقلال القضاء ونزاهته وقيامه بملاحقة المرتكبين والفاسدين الا التخلص من القاضية التي أزعجت النظام العام بطريقتها في تسريح شعرها.
قليل من الحياء يجعل كل قلم حر يستنكر ويدين هذا الانتقام العدائيّ للدولة العميقة والثورة العميقة معاً من القاضية غادة عون، فهي معيار قضايا لا ولاءات ولا سلوكيات وأداء. وقضية القضايا أن ليس لدينا في لبنان قضاء يمكننا أن نثق بأنه سيتجرأ على ملاحقة الذين تشاركوا بالمتاجرة بأموالنا وأعمارنا، في الدولة العميقة والثورة العميقة.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى