أولى

أيّ نظام مصرفي يحتاجه لبنان؟

‭}‬ زياد حافظ*
الأزمة المستمرّة والمتفاقمة في النظام المصرفي اللبناني على صعيد مصرف لبنان وجمعية المصارف اللبنانية تدلّ بوضوح إلى ضرورة إعادة نظر جذرية في بنية النظام المصرفي ودوره وأهدافه. تاريخياً كان النظام المصرفي اللبناني يخدم بنية اقتصادية سياسية نتجت عن حقبة استعمارية امتدّت إلى عقدين ونصف وفي ما بعد في حقبة الاستقلال وفقاً لتوازنات إقليمية ودولية لا داعي لاستذكارها في هذه المقاربة. اليوم، يتحمّل النظام المصرفي بكافة رموزه ومعه الطبقة السياسية الحاكمة مسؤولية الانهيار الاقتصادي يضاف إلى ذلك تدخل بعض الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة. ولقد قدّم المنتدى الاقتصادي والاجتماعي رؤية متكاملة للخروج من الأزمة منها إعادة بناء القطاع المصرفي.
بطبيعة الحال، فقد النظام المصرفي الحالي أيّ مصداقية يستطيع من خلالها استجلاب الرساميل اللبنانية في الخارج والرساميل العربية التي يمكن أن تساهم في إعادة إعمار لبنان. فالسلوك اللصوصي للنظام المصرفي الحالي المحمي من الطبقة السياسية والقضاء اللبناني لا يمكن الاستمرار به إذا أراد اللبنانيون الخروج من الأزمة التي هم فيها. هذا حتى لو تمّت «انفراجات» على الصعيد العربي والإقليمي والدولي. فـ «الانفراج» في لبنان له شروط موضوعية عرضها المنتدى الاقتصادي في رؤيته كما عرضنا شروط التغيير السياسي المطلوب لبقاء لبنان. أما التغيير في المشهد الاقتصادي اللبناني بشكل عام وفي سلوك القطاع المصرفي فيبدأ في تغيير بنية النظام المصرفي القائم. هذا يعني تجب إعادة النظر في عدّة أمور.
الأمر الأول تجب إعادة بناء المصرف المركزي على أسس جديدة، حيث دور المصرف المركزي سيكون في خدمة السياسة النقدية والمالية التي ستتبنّاها الدولة اللبنانية. هذا يعني أن لا استقلالية سياسية للمصرف المركزي بل هو تابع لسياسة الخزينة اللبنانية. هذا موقف سيخلق نقاشاً حاداً وعميقاً لا بدّ من الإقدام عليه لأنّ الصلاحيات التي أعطيت لمصرف لبنان ولحاكمية أوْقعت البلاد في الهاوية دون أيّ رادع وأيّ مساءلة أو محاسبة وهذا لم يعد ممكناً ولا يجوز…
الأمر الثاني يتعلق بعلاقة المصرف المركزي والدولة. فمصرف لبنان الجديد سيكون أداة بيد الحكومة عبر سياسة نقدية مهمتها مزدوجة. المهمة الأولى هي الحفاظ على القوّة الشرائية لليرة اللبنانية والمهمة الثانية تنمية القطاعات الاقتصادية وفقاً لخطة تضعها الدولة وليس المصرف المركزي في توزيع الدعم والتسهيلات المالية للقطاعات الإنتاجية. وفي مرحلة إعادة البناء تكون القوّامة للمهمة الثانية بينما في رأينا ليس من الضروري وجود تناقض بين المهمتين. كما أنّ مهمة مصرف لبنان هي في حصر التداول النقدي في لبنان بالليرة اللبنانية وليس بأيّ عملة أجنبية أخرى. فالتبادل الداخلي لا يحتاج إلى عملة أجنبية والتعامل مع الخارج يجب أن يخضع لقيود ضابطة تضمن مصلحة لبنان الاقتصادية والمالية. لذلك يجب إلغاء مكاتب صرف العملة وحصرها في المصارف الوطنية كما يحصل في معظم بلدان العالم. فهذا الإجراء يمنع امتلاك عند المواطن اللبناني أو المقيم في لبنان عملة أجنبية لا مبرّر لحملها.
الأمر الثالث في غاية التعقيد وهي إعادة النظر في مفهوم الكتلة النقدية. فالاقتصاد النقدي يجعل الكتلة النقدية مؤلّفة من مكوّنين أساسيين: المكوّن الأول هو النقود المطبوعة والمكوّن الثاني إجمالي الودائع القصيرة الأجل أيّ تلك التي لا تتجاوز مدّتها السنة. الودائع قصيرة الأجل هي جزء من الكتلة النقدية لأن يمكن تسييلها في أيّ لحظة واستعمالها في تمويل التبادلات التجارية والتعاقدية. فوديعة المواطن في المصرف لأجل أقلّ من سنة لا تُعتبر حساب توفير بل نقود يحفظها المصرف لصالح المودع ويصرفها عندما يريد المواطن لتسديد نفقاته. هذا من باب النظرية التي تُعرّف بالكتلة النقدية. لكن ما حصل في النظام الرأس المالي ومع تطوّر الاقتصاد الوطني وتعقيدات العلاقات بين العملاء الاقتصاديين تطوّر مفهوم الودائع القصيرة الأجل لتظهر في أكثر من تشكيلة واحدة. فهناك ودائع الشركات، وهناك ودائع المؤسسات المالية الكبرى، وهناك ودائع حسابات التوفير، أيّ التي تكون مدّتها أكثر من سنة، حيث أصبح مفهوم الكتلة النقدية أوسع.
في معظم الدول المتقدّمة لا تتجاوز نسبة النقود المطبوعة 12 بالمئة كما هو الحال في الولايات المتحدة. هذا يعني أن معظم الكتلة النقدية هو من «صنع» النظام المصرفي برمّته، أي خارج السيطرة والتحكّم المباشر للدولة. صحيح أن للدولة، وفي هذه الحال المصرف المركزي، أدوات تستطيع أن تؤثر في توجّهات الكتلة النقدية كسياسة بيع وشراء سندات الخزينة والفائدة ونسبة الاحتياط لدى المصارف إلاّ أنه في آخر المطاف تفقد الدولة سيادتها المطلقة على الكتلة النقدية وتكتفي بصك العملة.
أهمية ذلك الواقع يدفعنا للتفكير بهوية النظام المصرفي المطلوب لنهضة اقتصادية في لبنان. لقد برهن القطاع الخاص في النظام المصرفي اللبناني أنه غير جدير لا على الصعيد المهني ولا على صعيد القانوني ولا على صعيد الأخلاقي بأن يكون عاملا في إعادة إعمار لبنان. نقترح بكل وضوح أن النظام المصرفي اللبناني الجديد يكون بيد الدولة عبر شبكة من المصارف المختصة بالقطاعات الإنتاجية. أما القطاع المصرفي الخاص فدوره يكون في تمويل التجارة والاستهلاك الخاص والقطاعات التي لا تشكّل مرفقاً استراتيجياً في البنية الاقتصادية اللبنانية. ونعي جيّداً أن هذا النوع من النظام المصرفي يخالف الثقافة الموروثة من حقبة الاستعمار والتبعية للخارج كما أنه يخالف ما يُسمّى بسمات ما يُسمّى بـ «الاقتصاد الحر» الذي يفتقد إلى الحرّية بل يشكّل بنية احتكارية لطبقة محدودة من الشعب اللبناني ويساهم في تعميق الاقتصاد الريعي. وبالتالي سيكون قبول قوّامة الدولة على القطاع المصرفي ساحة جدل ساخن، لكن في آخر المطاف ليس هناك من يستطيع أن يرافع عن دور إيجابي كبير للقطاع الخاص في النظام المصرفي اللبناني.
الكلام حول كفاءة الدولة وعن الفساد فيها هو الكلام نفسه الذي يمكن توجيهه للقطاع المصرفي الخاص بعد التجربة التي أوقع لبنان فيها. فإذا خُيّر المرء بين «فساد» الدولة أو «فساد» القطاع الخاص فربما الكفّة ستميل إلى صالح الدولة، لأنه يمكن التأثير بالدولة ولكن من الصعب التأثير في سلوك القطاع الخاص إلّا قسراً.
من جهة أخرى لا نعتقد أن لبنان بحاجة إلى عدد كبير من المصارف كما هو الحال. فاقتصاد بلاد الحرمين يقارب 600 مليار دولار ونظامه المصرفي لا يتجاوز عدد المصارف العاملة من وطنية وأجنبية 12. فماذا يبرّر العدد الكبير لمصارف صغيرة نسبياً ولا تساهم في بناء اقتصاد إنتاجي؟ لذلك ندعو أن لا يتجاوز عدد المصارف أصابع اليد في أحسن الأحوال.
الأمر الرابع وإضافة إلى ما سبق، فالسياسة النقدية التي يجب اتباعها في مرحلة إعادة البناء واستنهاض الطاقات الإنتاجية في لبنان يجب أن تكون موجّهة لدعم القطاعات الإنتاجية. هذا يعني أن حركة الرساميل والمدخرات يجب أن تكون داخل الإطار الجغرافي اللبناني ما يفرض على الدولة فرض رقابة على حركة رؤوس الأموال الوطنية. فتجربة نظام مصرفي اعتمد الفوائد المرتفعة على الودائع بحجة «جلب الرساميل» وتثبيت سعر الصرف تجاه العملات لم يأت بأي استثمار إنتاجي. فلماذا يقوم العميل الاقتصادي بمخاطرة طالما الفوائد المرتفعة على الودائع تؤمّن له دخلاً دون مخاطرة؟ السياسة التي اعتمدتها الدولة اللبنانية في حقبة الطائف قتلت القطاعات الإنتاجية عبر توجيه الاستثمارات إلى سندات الخزينة. لم يكن هناك أي مبرّر اقتصادي لفرض فوائد مرتفعة سواء لمنفعة أصحاب الرساميل الوطنية التي أصبحت رساميل ريعية وأصحاب رساميل عربية مرتكزة في اقتصاداتها على بنى اقتصادية ريعية بامتياز.
لبنان ليس بحاحة إلى ذلك النوع من الرساميل التي تودع في المصارف ولا توظّف في القطاعات الإنتاجية. كما أن فتح حرّية حركة الرساميل من الخارج إلى الداخل اللبناني تفتح مخاطر كبيرة كالمضاربات الخارجية كما حصل في الأسواق الناشئة في شرق آسيا في المنتصف الثاني من التسعينيات من القرن الماضي. فالرساميل الساخنة لا تنفع لبنان بل تشكّل تهديداً لاستقراره. السوق المالية في لبنان ما زالت محدودة ولا تبرّر مجيء تلك الرساميل. فالسياسات التي اعتمدت في حقبة الطائف على اجتلاب الرساميل تبينّ أنّها لم تكن للتوظيف أو الاستثمار في الاقتصاد اللبناني بل ربما لتدوير أو تبيض رساميل من الخارج مصدرها مجهول إلاّ لقلّة من العارفين.
لذلك لا بدّ من ضبط حركة الرساميل داخل لبنان ومن لبنان وإلى لبنان. كما نؤكّد على التنسيق مع سورية والعراق والأردن وفي ما بعد مع فلسطين المحرّرة ككتلة جغرافية اقتصادية واحدة. والتنسيق لا يقتصر على البنى التحتية بل أيضاً في القطاع المصرفي والنقدي.
وأخيراً لا بد من إعادة النظر في التعامل مع ما يُسمّى بالمؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمصرف الأوروبي للاستثمار وسائر المؤسسات المالية التابعة للحكومات الغربية. فهذه المؤسسات أجهضت دور المصارف التنموية في الدول الناشئة وألغت المفهوم التنمويّ لتحويله لخدمة الاقتصادات الغربيّة. وإعادة النظر في تلك المؤسسات ليست مبنيّة فقط على الشروط التي تضعها في توجيه السياسات الاقتصادية والمالية بل أيضاً في حجم «المساعدات» التي هي قروض لها الأفضلية على القروض الوطنية أو الخارجة عن إطار سيطرة تلك المؤسسات.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى