أولى

الخطر يداهمنا ولم يعد أمامنا غير البحر!!

‭}‬ د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن تهديد الأمن القومي المصري من كل الحدود البرية فهو نتاج سياسات خاطئة أنتهجتها مصر على مدار نصف قرن من الزمان، فمنذ رحيل الزعيم جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وتولّي الرئيس السادات مقاليد الحكم بدأت حملة ممنهجة للهجوم على رؤية وسياسات جمال عبد الناصر، وفي إطار الحملة استهدفت رؤيته للأمن القومي المصري والتي ترتكز على استيعاب الرجل لحقائق التاريخ والجغرافيا حيث قدّم رؤيته للأمن القومي المصري في كتابه فلسفة الثورة، وكان ذلك في عام 1954 حيث أكد على أن الأمن القومي المصري يتطلب النظر بعيداً عن حدودنا الجغرافية؛ وهذا ما يؤكده التاريخ.
وبناءً على القراءة العميقة للوقائع التاريخية والإدراك الحقيقي للموقع الجغرافي المتميز لمصر في قلب العالم قدّم جمال عبد الناصر رؤيته للأمن القومي المصري والتي تعرف بنظرية الدوائر الثلاث وهي الدوائر التي تمكن مصر من الحفاظ على أمنها القومي من ناحية وضمان الحفاظ على مكانتها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة في محيطها الحيوي والعالم، والدائرة الأولى هي الدائرة العربية التي تحيط بنا وترتبط مصالحنا بمصالحها وتاريخنا بتاريخها، والدائرة الثانية هي الدائرة الأفريقيّة التي نحن جزءٌ منها ونستمدّ منها شريان حياتنا وهو نهر النيل، والدائرة الثالثة هي الدائرة الإسلامية التي تربطنا بها العقيدة وحقائق التاريخ.
وبالطبع هذه الرؤية هي التي حكمت سياسات جمال عبد الناصر الخارجية، حيث أصبح مشروع القومية العربية إحدى الركائز الأساسية للحفاظ على الأمن القومي المصري، فكان سعيه الدائم لدعم حركات التحرر الوطني العربية، ومساندة الثوار، ومحاربة الأنظمة العميلة للاستعمار، والسعي لإقامة الوحدة العربية، ولم يتوقف جمال عبد الناصر هنا بل قام بدعم حركات التحرر الأفريقية، وساهم في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 وجعل مقرّها أديس أبابا العاصمة الإثيوبية، وأقام شركة النصر للتصدير والاستيراد التي مارست نشاطات اقتصادية واسعة داخل القارة الأفريقية، وعلى مستوى العمل الإسلامي قام بإنشاء مدينة البعوث الإسلامية في عام 1954 لإقامة وإعاشة الطلاب الوافدين من الدول الإسلامية للدراسة بالأزهر الشريف على نفقة الدولة المصرية. وفي عام 1960 تم إنشاء المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، ثم تبعه في عام 1961 إنشاء مجمع البحوث الإسلامية لبحث ودراسة كل ما يتصل بالقضايا الإسلامية، وفي عام 1964 أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وفي عام 1969 ساهم في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط في المغرب.
وقد أدت رؤية جمال عبد الناصر للأمن القومي المصري عبر الدوائر الثلاث العربية والأفريقية والإسلامية إلى الحفاظ على الأمن القومي المصري ومنع أي تهديد له سواء من قبل الدول العربية أو الأفريقية أو الإسلامية التي تمثل محيطنا الحيوي لارتباطنا بهم جغرافياَ وتاريخياَ، ولم تتمكن القوى الإمبريالية العالمية التي كانت تستهدف تحجيم الدور المصري كقوى إقليمية عظمى من النيل من الأمن القومي المصري عبر اختراق الدوائر الثلاث والتأثير على دول هذه الدوائر. وهو ما يحدث الآن بفضل الرؤية القاصرة للأمن القومي المصري التي تبناها الرئيس السادات الذي رفع شعار مصر أولاً والذي تتلخص بالانكفاء على الذات.
وخلال نصف القرن الأخير انسحبت مصر من محيطها الحيوي وتقزم دورها وانكمشت مكانتها كقوة اقليمية عظمى، وعندما هبت رياح الربيع العربي المزعوم وجدنا أنفسنا في مواجهات داخل حدودنا الجغرافية وخاض جيشنا الباسل معارك مباشرة، فعبر حدودنا الشرقية عبرت إلينا جحافل الجماعات التكفيرية الإرهابية، بعد أن أخذت إشارة البدء من العدو الأميركي لتنفيذ الجزء الخاص بمصر في مشروع الشرق الأوسط الكبير، ودارت معارك شرسة على كامل جغرافية سيناء ولا زال التهديد مستمراً مع الاعتداء الصهيوني المتكرر على غزة، وهناك وعبر البوابة الغربية تعربد الجماعات التكفيرية الإرهابية على الأرض العربية الليبية بدعم غربي لا يرغب في إنهاء الأزمة، وهو ما يعني استمرار التهديد المباشر للأمن القومي المصري. وقام الجيش المصري البطل بإقامة قاعدة محمد نجيب العسكرية في محاولة لتأمين الأمن القومي المصري من الغرب، ومن الجنوب جاء التهديد من منابع النيل شريان الحياة للمصريين حيث انتهز العدو الأميركي الفرصة وأقنع إثيوبيا بإقامة سد النهضة للتأثير على حصة مصر التاريخية في مياه النيل، ولم يكتف بذلك بل أشعل النيران في الداخل السوداني وانتشرت الميليشيات المسلحة ودار الاقتتال، وهو تهديد مباشر للأمن القومي المصري، وقام الجيش المصري بإنشاء قاعدة برنيس العسكرية لتأمين الأمن القومي المصري من الجنوب.
واليوم وبعد أن أصبحت مصر يداهمها الخطر من كل حدودها البرية، ولم يعد أمامها إلا البحر في الشمال وعبر المتوسط، نعود لنجدّد الدعوة بحتمية إحياء رؤية جمال عبد الناصر للأمن القومي المصري، فالتخلي عن نظرية الدوائر الثلاث هو ما أوصلنا لهذه المرحلة من التهديد المباشر لأمننا القومي، فيجب العودة للعمل على لمّ الشمل العربي كمقدمة لإحياء المشروع القومي العربي، ولا بد من مد الجسور مع الدول الأفريقية لإعادة العلاقات لسابق عهدها، وحتماً يجب النظر في علاقاتنا بالدول الإسلامية والبحث عن وسائل لتوطيدها، فحقائق التاريخ وواقع الجغرافيا يقول إنه لا أمن بعيداً عن هذه الدوائر، التي يمكن من خلالها عودة مصر للقيام بدورها كقوى إقليمية عظمى لها وزنها وكلمتها المؤثرة في محيطها الحيوي والعالم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى