أولى

سورية والحصار عليها والموقف الدولي المستجدّ

‭}‬ زياد حافظ*
في ظلّ الانفراجات العربية مع كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وسورية تجلّت مؤخّراً بزيارات من قبل الرئيسين الإيراني والسوري إلى بلاد الحرمين والسوري إلى دولة الإمارات العربية المتحدة فلا بدّ من التوقف عند المشهد العربي الجديد لعلاقات كانت متوترة للغاية وتنذر بانفجار كبير في المنطقة العربية تطال كل غرب آسيا وربما شمال أفريقيا.
الملاحظة الأولى التي يمكن إبداؤها بعد قمة جدّة والحفاوة باستقبال الرئيس الأسد من قبل ولي العهد محمد بن سلمان تشير إلى أنّ مرحلة استعادة استقلال القرار السياسي العربي قد بدأت وهي قيد التحقيق مع العمل لتمكين استعادة العافية الاقتصادية والسياسية لسورية. وهذه العافية المرتقبة مكوّناتها عربية، وإقليمية، ودولية. فعلى الصعيد الإقليمي سنرى استثمارات من دول الجزيرة العربية في مشاريع اقتصادية كالطافة والمواصلات والمياه والبنى التحتية، إضافة إلى قطاع البناء والسياحة. أما على الصعيد الإقليمي فتوثيق العلاقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران وخاصة بعد افتتاح ممرّ الشمال الجنوب الذي يربط سان بطرسبرغ ببحر عُمان وصولاً إلى الهند سينعكس بتثبيت الاستقرار الأمني الذي يحمي مصادر الطاقة وشرايين إيصالها إلى العالم وإلى الاستثمار في سورية لأنها حجر زاوية في الهندسة الإقليمية والدولية الجديدة وأيضاً لأن سورية قد تكون المحطة الأخيرة على شاطئ بحر المتوسط لمبادرة الطريق الواحد والحزام الواحد التي تربط البحار الخمسة الذي كان قد أشار إليها في السابق الرئيس بشار الأسد (بحر المتوسط، البحر الأسود، الخليج، بحر قزوين، البحر الأحمر). أما على الصعيد الدولي، فمن الواضح أن قوّامة الصين في المنطقة قد يتبعها كل من الهند وسائر دول مجوعة دول جنوب شرق آسيا (أسيان). كما أن مشاركة دول الجزيرة العربية ومعها كل من بلاد الشام وبلاد الرافدين في المنظومات العالمية الآسيوية كمنظومة البريكس ومنظومة شنغهاي والمؤسسات التابعة لها سيشكّل واجهة العالم الجنوب الإجمالي في وجه الغرب الآفل.
الملاحظة الثانية هي أن الاستقلالية المستعادة من قبل العديد من الدول العربية والتي تجلّت باستعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربية هي نتيجة صمود سورية والمحور التي هي جزء منه في وجه الاعتداء الكوني على سورية وإن كان في البداية بمساهمة عربية. فبعد أكثر من عقد من الزمن استطاعت سورية الثابتة في مواقفها أن تساهم في «تحرير» الإرادة العربية عبر كشف العجز الغربي وازدواجية المعايير التي يفرضها على العرب والمسلمين بشكل عام وعلى الشعوب والدول التي تحرص على استقلالها. فالغرب لم يعُد ذلك الوحش المخيف وإن كان سلوكه ومازال في منتهى الوحشية كما نرى في الساحة الأوكرانية حيث يدفع الشعب الأوكراني إلى الانتحار في حرب عبثية وغير ذات جدوى للأوكرانيين. كما ظهرت وحشية الغرب في التعامل مع النازحين من ساحات القتال في وسط وغرب آسيا.
الملاحظة الثالثة هي أن الإجماع العربي المتجدّد سيساهم في تكريس التحوّلات في المعادلات الإقليمية والدولية. فكما استطاعت المقاومة أن تُفشّل المشروع الأميركي في العراق، وكما استطاعت المقاومة في لبنان إفشال مشروع شرق أوسط جديد، وكما استطاعت المقاومة في فلسطين أفشال المشروع الصهيوني وإسرائيل الكبرى، وذلك عبر استنزاف القدرات السياسية والمعنوية للغرب فساهم العرب المقاومون في تسهيل صعود دول كبرى منافسة للهيمنة الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص. وإذا اكتمل الشمل وثبت التوافق العربي عبر إرادة ذاتية وليست مفروضة، فإن ما تمثله الدول العربية مجتمعة وموحدة تستطيع التسريع وترسيخ معادلات دولية لصالح قضاياها العالقة. وبمعنى أدق، إن استعادة عافية سورية ومعها كل من العراق ولبنان وفلسطين واليمن سيتيح الفرصة لتغيير المعادلات الدوليّة. فعافية سورية والعراق ولبنان واليمن من عافية التوافق العربي المستجدّ.
الملاحظة الرابعة هي أفول الغرب وسرعة تراجعه رغم إمعانه في تطبيق سياسة العقوبات الاقتصادية على الدول التي ترفض الانصياع لإملاءاته. فأصبح عاجزاً عن خوض الحروب مباشرة ومؤخّرا عن تجنيد دول ومجموعات لخوض الحروب بالوكالة عنه. فالحرب في أوكرانيا هي حرب الأطلسي ضد روسيا وستستمر حتى آخر أوكراني بعد الاستثمارات الكبيرة الغربية في بناء القدرات العسكرية الأوكرانية. ودول عالم الجنوب الإجمالي ترفض المشاركة في العقوبات على روسيا لأسباب عديدة، ولكنها في آخر المطاف بسبب شعور تلك الدول أن قدرة الأذى من الغرب تراجعت بشكل ملحوظ. أو بمعنى آخر يمكن القول إن الانصياع للإملاء الغربي قد أصبح أكثر كلفة من «التمرّد» عليه.
الملاحظة الخامسة تتعلّق بخلفية العقوبات على الدول الرافضة للخضوع كسورية. فهذه الخلفية هي العنصرية المتجذّرة في الثقافة الغربية منذ حملات الفرنج (الحروب الصليبية كما يُسمّونها) وخاصة في حقبة الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر والعشرين. النظرة الدونية لشعوب المنطقة وخاصة في سورية تجلّت في المفاوضات التي تلت الحرب العالمية الأولى وتنصّل الدول الحليفة المنتصرة في الحرب من التزاماتها تجاه وجهاء المنطقة الذين ساهموا في التمرّد على السلطنة العثمانية وشنّ الغزوات على الخطوط العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. الباحثة الأميركية في التاريخ اليزابت تومبسون في مؤلف جديد لها وبعنوان مثير «كيف الغرب سرق الديمقراطية من سورية» تؤرّخ كيف تعامل المسؤولون البريطانيون والفرنسيون والأميركيون مع الوفود العربية في مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة مع الأمير فيصل ومرافقيه. كما تروي النظرة الدونية لمسؤولي الدول المنتصرة في الحرب تجاه سكّان غرب آسيا أي عليه بلاد الشام وبلاد الرافدين بأنهم أعجز من أن يديروا أنفسهم وبالتالي فهم بحاجة إلى «تمدين» قبل الوصول إلى «الرشد» السياسي! فهذه كانت «كاهل الرجل الأبيض» (الإنكليز) و»المهمة التمدينية» لفرنسا و»القدر المتجلّي» للولايات المتحدة.
التصريحات التي أدلى بها مسؤولون أميركيون في ترويج سياسة العقوبات على سورية تدلّ بوضوح أن الهدف هو الأذى والتجويع كافة الشعب السوري ليس بهدف أن ينتفض على الدولة والحكم بل لهدف الأذى والابادة. واحتلال الولايات المتحدة لمنابع النفط وحقول القمح والمزروعات في شمال شرق سورية هدفه الإمعان في النتائج المرتقبة لسياسة العقوبات بالتجويع وتفشّي قلّة الغذاء وشلّ القدرة على الإنتاج عبر مصادرة الطاقة. وجميع هذه العقوبات مخالفة للقانون الدولي وخارج إطار ميثاق الأمم المتحدة وترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
الملاحظة السادسة هي أن كسر الحصار على سورية قد تمّ فعلاً عبر استعادة سورية مقعدها في الجامعة العربية رغم الضغوط الغربية لمنع ذلك. هذا يعني أن مسؤولية كسر الحصار ورفعه وإيقاف العقوبات أصبحت مهمة عربية. وسيصعب على الغرب «معاقبة» كل العرب وهو بحاجة إلى الطاقة التي تصدّرها دول المنطقة. ويتلاقى هذا التطوّر في الموقف العربي مع المساعدات التي كانت وما زالت تتلقاها سورية من الدول الصديقة كالجمهورية الإسلامية في إيران، المحاصرة أيضا، ومن روسيا أيضا المحاصرة وتحت سيف العقوبات الغربية. هذا يعني أن طابع فك الحصار على سورية سيكون في المرتبة الأولى مع الدول العربية وثانياً مع مجموعة البريكس ثم تدريجياً وبوتائر مختلفة مع دول القارة الأفريقية وأميركا اللاتينية. أوروبا بشكل عام ومجموعة الدول الانجلوساكسونية (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، كندا، استراليا، نيوزيلندا) ستستمر إلى فترة قد تطول في رفض النتائج التي فرضتها التحوّلات الدولية والإقليمية ومنها كسر الحصار على سورية. فهي الوحيدة التي ستستمر في فرض العقوبات إلى أن تنهار المنظومة الغربية؛ وهذا شيء لا يمكن استبعاده في المدى المنظور. فالأزمات الخانقة التي تواجه هذه الدول بسبب سياسات حمقاء وقيادات في منتهى الرداءة لا يمكن أن ينتج عنها إلاّ الانهيار. وفي رأينا لا نعتقد أن الغرب يستطيع أن يقدّم أي شيء لسورية أو لأي دولة حريصة على التمسّك باستقلالها السياسي والاقتصادي.
فك الحصار يتطلّب الالتحاق بالمجموعات الدولية التي تناهض الهيمنة الأميركية. من هنا نرى ضرورة أن تنضمّ مجموعة الدول العربية، وليس بعضها فقط، إلى مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي والمؤسسات الاقتصادية والمالية والأمنية التابعة لها. المؤسسات الغربية الاقتصادية والمالية فقدت مصداقيتها، كما فقدت الدول الغربية مصداقية سلامة الاستثمارات. ونضيف أن فقدان الدول الغربية السيطرة على شرايين المال ومصادر التمويل ستجعل كسر الحصار أكثر سهولة بل تجعل الحصار والعقوبات دون أي جدوى تذكر.
نقول ذلك لأن ما لاحظناه من تطوّرات بين دول أعضاء البريكس ومنظمة شنغهاي أدّت إلى نمو كبير في التجارة البينية بينها. ويعود ذلك التطوّر إلى العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على روسيا وخروج العديد من الشركات الأوروبية من روسيا. هذا الخروج الذي كان يهدف إلى تدمير الاقتصاد الروسي تحوّل إلى فرصة هائلة للاقتصاد الروسي للوصول إلى الاكتفاء الذاتي عبر الصناعات البديلة من جهة ولدول كالهند التي أصبحت تتاجر مع روسيا بالعملة الوطنية. كذلك حصل مع دولة جنوب أفريقيا حيث التهديدات الأوروبية والأميركية أدّت إلى المزيد من التقارب في العلاقات الاقتصادية بين جنوب أفريقيا وكل من الصين وروسيا والهند. المهم هنا أن سياسة العقوبات ارتدّت على أصحابها وشكّلت فرصاً للمتاجرة بين الدول التي استهدفتها العقوبات أو التهديد بها. لقد بات واضحاً لهذه الدول وتلك التي لم تستجب للضغوط الأميركية أن مصلحتها هي في توثيق العلاقات مع دول البريكس مما يعني على صعيد الدول العربية وخاصة سورية أن كسر الحصار على سورية ليست مصلحة سورية فحسب، وليست مصلحة عربية أيضاً، بل هي مصلحة للعالم أجمع الذي يريد الخروج من قبضة الهيمنة الغربية بشكل عام، والأميركية بشكل خاص. لذلك نرى كسر الحصار على سورية سيأتي من الجنوب الإجمالي بشكل عام ومن الشرق بشكل خاص لأن الغرب لم يعُد لديه شيء يقدّمه لتكون العلاقة معه لها أي جدوى.
الملاحظة الأخيرة هي أهمية الدور الشعبي العربي في الضغط على النظام العربي الرسمي وفي ترويج ثقافة الاستقلال السياسي للدول العربية. بالمناسبة، نذكّر أن أحد أبعاد المشروع النهضوي العربي هو الاستقلال الوطني من الإملاءات الخارجية. ما حصل في انعقاد القمة هو إنجاز يصبّ في النهوض العربي. غير أن ذلك يتطلب استمرار الجهود لتحصين الاستقلالية المستعادة ولمنع انزلاقات يسعى الغرب والكيان الصهيوني لتحقيقها. فحضور الرئيس الأوكراني زيلنسكي للقمة قد يشكّل ثغرة للحالة الجديدة للاستقلال العربي لكن يمكن تفهّم إجراء الدولة الداعية للقمة، أي بلاد الحرمين، لدرء العداء الغربي، الذي لن يقدّم ولن يغيّر في المسار الجديد للنظام العربي.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى