أولى

«مغامرة» الناتو الجديدة ضدّ روسيا… هجوم أوكرانيا المضاد

‭}‬ د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
جاء «الهجوم المضاد» الأوكراني الأخير ثمرة تعهّدات «قمة مجموعة السبع»، في هيروشيما باليابان، برفع مستويات دعمها لكييف إلى معدلات عالية، لتحفيزها على تحقيق هدف الرئيس الأميركي جو بايدن المعلن باستنزاف روسيا «مهما طال أمد الصراع». وفي حال فشله، كما هو متوقّع، سيستأنف الغرب استثماراً متعدّد الأوجه في سياق مشاركته المباشرة في الحرب على روسيا، ومدركاً خفايا تصريحات قادته العسكريين بأنّ ترساناته المتعدّدة أوشكت على الاستنزاف إلى حد بعيد.
تشير وسائل الإعلام الأميركية والغربية إلى زيارة قام بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الخطوط الأمامية في جبهة خيرسون، في الـ 8 من الشهر الحالي، للإطلاع على التطورات الميدانية، لطمأنة جمهورها الذي يعرب عن شكوكه في إعلان كييف المتواصل بتحقيقها إنجازات ميدانية «تصعب استساغتها».
وتستدرك هذه الوسائل بأنّ زيلينسكي «سمع أخباراً لم يشأ سماعها» من قادته الميدانيين، بأنّ الهجوم المضاد لا يسير على ما يرام مع ارتفاع الخسائر البشرية والمادية، فضلاً عمّا أفادت به وكالات الأنباء من قدرة الجيش الروسي على تدمير عدد من المعدات الغربية الحديثة، لا سيما دبابات برادلي الأميركية وليوبارد الألمانية وعربات الاستطلاع المدرّعة الفرنسية.
الجائزة الروسية الكبرى، بنظر الخبراء العسكريين، كانت تدمير رادار نظام الدفاع الجوي من طراز IRIS-T Hensoldt، الذي تسلّمته كييف مؤخراً، باستخدام طائرة مُسيّرة انتحارية، مما أفشل خطة الهجوم العسكرية للواء 47 الأوكراني المجوقل الذي تمّ إعداده وتدريبه وتسليحه في دول الناتو الأوروبية، ليشمل عتاده «مناظير ليلية، معدات استشعار حرارية، ودبابات قتالية وعربات مدفعية من طراز HIMARS.
لا تزال إرهاصات معارضة الأميركيين للحرب في أوكرانيا في مهدها، مقارنة بما واجهته آلة حربها المدمّرة في فيتنام من رفض واضح وصريح. ووجّه نحو 14 شخصية سياسية وديبلوماسية خطاباً مفتوحا للرئيس جو بايدن، نشرته يومية «نيويورك تايمز» في 16 أيار/ مايو الماضي، يناشدونه التزام الحلّ الديبلوماسي وإنهاء الحرب في أوكرانيا، مذكّرين بتعهّد حلف الناتو للرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بعدم التمدّد شرقاً. واعتبرت المجموعة حلف الناتو بأنه «أحد مظاهر عسكرة السياسة الخارجية الأميركية الموصوفة بأحادية التوجّه وتغيير النظم وشن الحروب الاستباقية».
تضمّ المجموعة حديثة العهد، تحت مظلة «شبكة أيزنهاور للإعلام»، نخَباً سياسية وعسكرية وأمنية وازنة، أبرزها العقيد لورانس ويلكرسون، والأستاذ الجامعي جيفري ساكس، وضابط مكتب التحقيقات الفيدرالي الأسبق السيدة كولين راولي، والديبلوماسي السابق ماثيو هو، والسفير الأميركي الأسبق في موسكو جاك ميتلوك، ومستشار الأمن القومي الأسبق وينسلو ويلر.
من الجائز القول إنّ «المساعدات المالية الأميركية لأوكرانيا»، والتي بلغت أكثر من 30 مليار دولار، قد أرخت ظلالها على المشهد السياسي الأميركي الذي يعاني من التضخّم وزيادة أسعار الوقود والطعام يرافقه خفض ملحوظ في ميزانيات التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، فضلاً عن إفلاس مصارف مالية كبرى.
كما نشطت بعض النخب الفكرية في لفت الأنظار إلى خطورة الطاقم الثلاثي الذي «يدير السياسة الأميركية نيابة عن الرئيس الصوري»، بحسب توصيفهم، والمكوّن من المحافظين الجدد: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وزير الخارجية أنتوني بلينكن ونائبته فيكتوريا نولاند، وانضمّ إليهم مؤخراً مرشّح بايدن لترؤس هيئة الأركان المشتركة، شارلز براون، المعروف بتشدّده حيال الصين وروسيا.
تصدّع الثقة في عزم واشنطن «توريط» أوكرانيا ضدّ روسيا له خلفياته في صلب النخب السياسية والفكرية، وحتى العسكرية. في عنوان صادم للشعب الأميركي، الذي صدّق سردية البيت الأبيض طويلاَ، طالعتنا إحدى النشرات الموزونة بأنّ «فريق الرئيس بايدن يخشى تداعيات فشل هجوم أوكراني مضاد»، مستطردة أنّ ما يجري «خلف الأبواب المغلقة يقود إلى قلق الإدارة مما يمكن لأوكرانيا تحقيقه» من أهدافها المعلنة الممثّلة باستعادة مساحات واسعة في شرقيّ وجنوبيّ البلاد (نشرة «بوليتيكو»، 24 نيسان/ إبريل 2023).
والنتيجة، بحسب النشرة، في حال تواضع إنجازات أوكرانيا فقد أعرب عدد من «مسؤولي الإدارة رفيعي المستوى» عن قلقهم في مواجهة «وحش ذو رأسيْن»، صقور وحمائم الطيف السياسي الأميركي والأوروبي، ولجوء الأخير إلى انتهاج مسار «المفاوضات» بين موسكو وكييف.
في لمقابل، تمضي النخب السياسية والفكرية المرتبطة بالمؤسسة الحاكمة في تأليب مشاعر الرأي العام ضدّ روسيا، واجتراح «انتصارات» وهمية لحلفائها في كييف. وزعمت نشرة المعهد الفكري لحلف الناتو، أتلانتيك كاونسيل، أنّ الحرب ستستمر «طالما أن روسيا يقودها (الرئيس فلاديمير) بوتين، وروسيا في حالة حرب معنا»، أسوة بالسردية الرسمية المؤيّدة لنهج «زعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي الجديد، كونها القوة العظمى المتبقية» (نشرة «ذي أتلانتيك»، 9 حزيران/ يونيو 2023).
وما فاقم القلق الأميركي المشار إليه تسريب «مذكّرة بالغة السريّة» من البنتاغون، انتشرت بقوة على وسائل التواصل الاجتماعي، فحواها عدم تحقيق أوكرانيا أهدافها بعد إطلاقها للهجوم المضاد («واشنطن بوست»، 10 نيسان/ إبريل 2023).
وواصلت نشرة «بوليتيكو» الكشف عن جدل دوائر القرار المغلقة بأنّ مضمون التقييم الأميركي الأحدث لأداء أوكرانيا يشير إلى «إمكانية تحقيق كييف بعض التقدّم في الجنوب (زابوريجيا) والشرق (دونيتسك)، لكنها لن تستطيع تكرار النجاحات التي حقّقتها العام الماضي»، خصوصاً بعد تيقّن تلك الأوساط من أداء القوات الروسية «بتطبيقها الصارم لعقيدتها العسكرية ما أسفر عن إيقاع خسائر إضافية في صفوف القوات المهاجمة».
تحاول النخب الفكرية الأميركية تصويب بوصلة الجدل اليومي باتجاه «التفاوض على وقف إطلاق النار، خصوصاً في حال فشل أوكرانيا بتحقيق انتصارات ميدانية ملموسة». وتمضي لتسليط الضوء على عُجالة إنهاء الحرب في أوكرانيا لأنّ استمرارها «مرهق ومكلف ومخزون ذخائرنا ينفذ، ولدينا حالات طوارئ أخرى عبر العالم ينبغي علينا الإعداد لها» (ريتشارد هاس، رئيس «مجلس العلاقات الخارجية»، الذراع الفكري لوزارة الخارجية الأميركية، 24 نيسان/ إبريل 2023).
كما يسود قلق مضاف داخل الإدارة الأميركية بشأن استمرار الكونغرس في المصادقة على مزيد من أموال الدعم لأوكرانيا، بعد نفاذ الجزء الأخير، والخشية أيضاً من انعكاس أيّ تراجع ميداني للجانب الأوكراني، كنقيض للهدف المعلن باستعادة شبه جزيرة القرم، على ميول أعضاء مجلس النواب في تركيبته الراهنة للتخلّص من الاستنزاف الأوكراني، وتحميل المسؤولية كاملة للإدارة والحزب الديموقراطي.
إنهاء الحرب أصبح أحد مكوّنات الجدل السياسي الأميركي، خصوصاً بين النخب السياسية والفكرية وبعض العسكرية، مسترشدة بصعوبات الموقف الميداني بعد الخسائر البالغة التي تكبدتها كييف، ومحذّرة من تكرار سوء تقدير سياسي وعسكري لما هو آتٍ، كما شهد العالم في الحرب العالمية الثانية حينما تكبّدت القوات النازية خسائر جمة استمر استنزافها 8 أشهر من أجل احتلال القاعدة البحرية السوفياتية في سيفاستوبول في جزيرة القرم.
أما «تسويق» إنهاء الحرب مع حفظ مياه الوجه لحلف الناتو وأوكرانيا فقد بدأ على قدم وساق في الدوائر المصغّرة والنافذة في صنع القرار بحيث «تصاغ في سياق وقف إطلاق النار للجانب الأوكراني، وليس كمنصة انطلاق مفاوضات سلام دائمة».
ما تقدّم من «سيناريوات» إخراج لمأزق حلف الناتو وقوات كييف سوية يناقض الأهداف السابقة المعلنة باستعادة شبه جزيرة القرم والجمهوريات الأخرى التي انضمّت إلى روسيا. ويلمس المرء عبر ذلك إقراراً صريحاً بأنّ تلك الأهداف أثبتت أنها «غير واقعية أسوة بهدف واشنطن المعلن لإلحاق الهزيمة بروسيا».
ومهّد استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد ستيفن وولت أرضية «التفاوض عبر قوة دولية عظمى»، أيّ الصين، قائلاً إنّ «ما تحتاجه أوكرانيا هو إحلال السلام، وليس المضيّ في شنّ حرب استنزاف طويلة الأجل»، خصوصاً في ظلّ عزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على «تحقيق أهدافه الاستراتيجية بحيادية أوكرانيا» («فورين بوليسي»، 18 نيسان/ إبريل 2023).
ما ينتظر مركز قرار حلف الناتو، الإدارة الأميركية، هو البتّ في مطلب توسيع نطاق الحرب لتضم دول أوروبا الشرقية، وهي مسألة سيتناولها قادة الحلف في القمة المرتقبة التي ستعقد الشهر المقبل في ليتوانيا، إضافة إلى وفاء واشنطن بوعودها لتسليح أوكرانيا بمقاتلات أميركية من طراز أف-16، التي لا تزال محط جدل داخلي تشوبه الخشية من انزلاق واشنطن إلى مواجهة مباشرة مع موسكو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى