مقالات وآراء

القصة الكاملة لقرار الإنقاذ المالي بعدم دفع «اليوروبوندز»

‭}‬ أحمد بهجة*
رغم أنّ الحقائق باتت واضحة أمام اللبنانيين، وصار الكلّ يعرف الحكاية من أوّلها كما يُقال، لا يزال بعض المغرضين ولأسباب معلومة (مدفوعة) يحاولون التعمية على الوقائع من خلال الترويج مرة أخرى لجملة الأكاذيب والمغالطات التي تمّ دحضها بالأرقام الجلية الدقيقة، تماماً كما هو ثابت أنّ 1 + 1 = 2 وليس 11…
هذا البعض لا يزال يكرّر كلما سنحت له الفرصة أنّ السبب الرئيسي للأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية هو قرار حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب في 7 آذار 2020، بالتوقف عن دفع سندات «اليوروبوندز”! مع العلم أنّ هذا القرار اتخذ من قبل الرؤساء الثلاثة والوزراء المعنيين وبعض المستشارين بحضور حاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف اللذين تماشيا مع قرار عدم الدفع. واتخذ القرار أيضاً في مجلس الوزراء بحضور جميع الوزراء بالإجماع وليس بقرار منفرد من قبل الرئيس دياب.
علماً أنّ الجميع يعرف، بمن فيهم أولئك المغرضون أنفسهم، أنّ سبب النكبة التي يعيشها اللبنانيون هذه الأيام هو السياسات المالية والنقدية والاقتصادية الخاطئة التي جرى اعتمادها منذ العام 1993، والتي راكمت الأزمات وأدّت في محطات عديدة إلى قيام وزارة المال ومصرف لبنان بإصدار سندات خزينة كانت في المراحل الأولى تصدر بالليرة اللبنانية مع فوائد عالية جداً وصلت في خريف العام 1995 إلى 43%، ثمّ أتت الخطيئة المميتة في 1998 حين أجاز المجلس النيابي للحكومة إصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية، رغم اعتراضات جوهرية سجلها عدد من الكتل والنواب المستقلين آنذاك.
إذن… المشكلة بدأت منذ ذلك الوقت، وراحت الديون تتراكم وتزداد، ودخل البلد في متاهة الاستدانة والفوائد ثم الاستدانة مجدّداً لتسديد الفوائد حتى بلغت قيمة خدمة الدين (الفوائد) سنوياً ما يقارب 5 مليار دولار (فريش)… إضافة طبعاً إلى الفساد المنظم وأحياناً المُقونَن الذي انتشر في مفاصل الدولة ونخرَها حتى العظم كالسرطان، خصوصاً أنّ الفاسدين والمفسدين كانوا وما زالوا يتمتعون بحمايات طائفية ومذهبية تجعلهم أقوى من أيّ محاسبة أو مساءلة، فكانت النتيحة هذا الانهيار الذي لا نزال جميعاً ننزلق في منحدراته ولا نعرف بعد متى يحين موعد الارتطام الكبير… علماً انّ الحاكم في مقابلته التلفزيونية الأخيرة بتاريخ 16/7/2023 أكد على صرف (هدر) 40 مليار دولار خلال 27 سنة لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية وذلك بقرار شخصي منه، بالإضافة الى التعاميم (2020 – 2023) التي خسر فيها المودعون اكثر من 80% من ودائعهم الدولار والتي سُحبت بالليرة اللبنانية.
أما في ما يخصّ تحديداً القرار الإنقاذي بالتوقف عن دفع سندات “اليوروبوندز”، ولكي تكون الحقيقة كاملة أمام الجميع، لا بدّ من العودة إلى الوقائع التي حصلت آنذاك وأدّت إلى إعلان قرار التوقف عن الدفع في 7 آذار 2020…
بداية يجب لفت النظر إلى أنّ حكومة الرئيس دياب نالت الثقة في مجلس النواب في 11 شباط 2020، وفوراً وجدت نفسها أمام استحقاقات كبيرة يجب اتخاذ القرار بشأنها في غضون أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر.
والغريب (وربما ليس بالغريب) أنّ الحاكم بأمره (رياض سلامة) لم يكلف نفسه إطلاع رئيس السلطة التنفيذية المعنية بمواجهة التحديات، على الحقائق المالية وسبل معالجتها.
وعليه… لم يكن القرار عشوائياً إنما أتى بعد البحث في كلّ الخيارات وبعد اجتماعات عديدة ومتتالية لأكثر من شهر في السرايا الحكومية، شاركت فيها نائبة رئيس الحكومة زينة عكر وكلّ المعنيين بالأمور المالية والمصرفية، بدءاً بوزيري المال والاقتصاد غازي وزنى وراوول نعمة وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وبحضور رئيس جمعية المصارف سليم صفير وممثلين عن المصارف والشركات التي تملك سندات “يوروبوندز”.
ومن بداية الاجتماعات التي تكثفت بعد منتصف شهر شباط 2020، كان الرئيس دياب صريحاً جداً ومباشراً وطرح رؤيته الواضحة أمام الجميع، واضعاً أمامهم ثلاثة احتمالات…
ـ الاحتمال الأول هو أن نسدّد الاستحقاقات في وقتها، وهذا أمر لا يجب أن نقدِم عليه، خاصة أنّ ما هو أمامنا ليس فقط استحقاق 9 آذار 2020 بقيمة 1.2 مليار دولار، بل تبيّن أنّ هناك استحقاقات أخرى في العام 2020 نفسه يصل مجموعها إلى4.7 مليارات دولار، وإذا أضفنا استحقاقات العام 2021 يصبح المجموع 9.2 مليارات دولار، ومع استحقاقات العام 2022 يصبح المجموع 12 مليار دولار. وهذا لا يشمل استحقاقات العام 2023! ثم تأتي استحقاقات أخرى في الأعوام اللاحقة يجب أن نضعها في الحسبان وندرس مدى قدرتنا على الاستمرار في السداد في ظلّ الظروف التي وصلت إليها المالية العامة والمعروفة منا جميعاً، خاصة أنّه تمّ تسديد سندات بأكثر من ملياري دولار (عبارة عن 1.5 مليار دولار من أصل المبلغ مضافاً اليه أكثر من 600 مليون دولار فوائد) في تشرين الثاني 2019، قبل أن تتسلم حكومة الرئيس دياب مهامها، ولم يأتِ ذلك بأيّ نتيجة بل ذهب المبلغ سدى وخسرته الخزينة العامة كما خسرت قبله الكثير.
إذن… السندات التي كان متوجّباً تسديدها لو لم يُتخذ قرار التوقف عن الدفع تبلغ قيمتها أكثر مما بقيَ من احتياطي بالعملات الأجنبية في المصرف المركزي. ولولا حكمة الرئيس دياب لكنا اليوم مفلسين فعلاً وليس في خزينتنا العامة أيّ شيء، وليس كما يدّعي المرتكبون في حملاتهم الإعلامية الفاشلة التي يريدون من خلالها أن يقنعوا الرأي العام بأنّ قرار التوقف عن الدفع هو سبب إفلاس البلد، وليس سياساتهم الخاطئة وأفعالهم المشينة وسرقاتهم المكشوفة طوال ثلاثين سنة وتحويلاتهم المشبوهة التي هرّبوا من خلالها مليارات الدولارات إلى الخارج وتركوا باقي المودعين على قارعة الطريق ينتظرون الفرج الذي لا يأتي…
ـ الاحتمال الثاني هو اتخاذ قرار بالتوقف عن الدفع، وهذا ما لا نريده جميعاً.
ـ الاحتمال الثالث هو أن نجري إعادة جدولة للسندات وتأجيل دفعاتها لعدة سنوات إلى الأمام قد تصل إلى عشرين سنة وربما أكثر كما فعلت دول عديدة تعثرت قبلنا مثل قبرص واليونان وغيرهما مع العلم انّ هناك أكثر من 100 دولة تعثرت او هي مهدّدة بالتعثر.
وهذا ما توافق عليه الحاضرون بالإجماع (إعادة الجدولة) لأنه الخيار الأفضل والوحيد الذي يُبقي لبنان نوعاً ما واقفاً على قدميه مالياً… وعندها طلب الرئيس دياب من مالكي السندات عدم بيْعها لأنّ هؤلاء المالكين (مصرف لبنان، والمصارف وشركتي فيدلتي وأشمور) لديهم أكثر من 75% من السندات، وهذا يُخوّلهم اتخاذ قرار إعادة جدولة الدفعات، ولكن المفاجأة كانت في بداية شهر آذار 2020 أنّ عدداً من مالكي السندات قاموا ببيعها في الأسواق المالية منذ أشهر، وبالتالي لم تعُد لدينا نسبة الـ 75 في المئة التي تسمح بإعادة الجدولة.
استدعى الرئيس دياب هؤلاء إلى اجتماع عاجل، وسألهم لماذا لم تلتزموا بما وعدتم به في الاجتماعات السابقة، وأنتم بفعلتكم هذه كنتم كمَن يطلق النار على قدميه، فأعطوا تبريرات واهية أكدت بما لا يقبل الشكّ أنهم يريدون الضغط على الحكومة وخاصة على رئيسها لكي يتمّ تسديد السندات في وقتها، لأنهم هم الذين سيقبضون قيمة تلك السندات وفوائدها المرتفعة، ومعهم مصرف لبنان وعدد من السياسيين والمصرفيين المعروفين، وهنا تطرح الأسئلة: هل بيع سندات اليوروبوندز هو للضغط على الحكومة ورئيسها أم هناك فرصة لبيع تلك السندات وتهريب قيمتها الى الخارج، أم الاثنين معاً؟ وهل يوجد ودائع لأصحاب المصارف ورؤساء وأعضاء مجالس الإدارة كودائع عالقة مثل أغلبية المودعين؟
لكن الرئيس دياب فاجأ الجميع وأبلغهم بأنهم هذه المرة سيكونون من الخاسرين، ولن يستطيعوا وضعه في الزاوية وجعله يتخذ القرار الذي يريدونه، وقال لهم عليكم أن تسارعوا خلال الأيام المتبقية قبل الاستحقاق في 7 آذار لاستعادة السندات ثم تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه من إعادة جدولة، وإلا فإنّ القرار سيكون بالتوقف عن الدفع وأنتم ستكونون المسؤولين عن النتيجة التي سنصل إليها، وهي نتيجة بمثابة جريمة ترتكبونها بحقّ مجموع اللبنانيين.
أمام هذا الواقع اتفق الرئيس دياب مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري على عقد اجتماع موسع في قصر بعبدا في 7 آذار، وهذا ما حصل بالفعل وعُقد الاجتماع بحضور الرؤساء الثلاثة (عون وبري ودياب) ونائبة رئيس الحكومة ووزيري المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان ورئيس جميعة المصارف وبعض المستشارين، واتخذ المجتمعون قرار التوقف عن الدفع، ووافق عليه مجلس الوزراء بالإجماع الذي عقد جلسته أيضاً بحضور جميع الوزراء في بعبدا بعد الاجتماع الرئاسي – الوزاري – المصرفي بنصف ساعة فقط، حيث خرج الرئيس دياب ليعلن القرار في خطاب موسّع ضمّنه رؤية شاملة لما يجب أن يتبع هذا القرار من خطوات، وهو ما تمّت ترجمته لاحقاً بإقرار خطة التعافي المالي والاقتصادي، وهي الخطة الوحيدة التي وافق عليها صندوق النقد الدولي وأثنى عليها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والعديد من السفارات الأجنبية، والتي أنجزتها الحكومة في غضون ستة أسابيع بينما يحتاج إنجاز هذا الأمر في دول أخرى إلى أشهر عديدة.
وهنا يجدر التذكير ببعض المؤشرات المهمة لتوضيح قرار التوقف عن سداد سندات “اليوروبوندز” في آذار2020:
ـ صنفت وكالات التصنيف (ستاندرد أند بورز، موديز، وفيتش) سندات خزينة الحكومة اللبنانية على أنها (CCC) على بُعد مستوى واحد من التخلف عن السداد في عام 2019 قبل فترة طويلة من استقالة الرئيس سعد الحريري.
ـ أغلقت البنوك أبوابها لمدة أسبوعين في تشرين الأول 2019 خلال حكومة الرئيس الحريري، وحالت دون وصول المودعين إلى أموالهم، (وهو الأمر المستمرّ إلى اليوم).
ـ قيّدت البنوك سحوبات المودعين مبدئياً إلى 300 دولار شهرياً، وبعد فترة وجيزة الى 100 دولار شهرياً في العام 2019.
ـ ملاحظة مهمة أخرى، وهي الأهمّ، أنه بحلول أوائل عام 2020 (قبل حصول الحكومة الجديدة على تصويت البرلمان بالثقة)، كان يتمّ تداول سندات “اليوروبوندز” بحسم حادّ على القيمة الإسمية (100%)، تمّ تداول سندات “اليوروبوندز” ذات الاستحقاق لمدة عام واحد بسعر 79 سنتاً على الدولار وسندات الاستحقاق لمدة عامين بسعر 46 سنتاً على الدولار، وهو مؤشر سوق واضح على أنّ السندات كانت في حالة تعثر عملياً والتوقعات التي يخصّصها السوق لإمكان وصول الحكومة اللبنانية إلى استقطاب الأموال هي فعلياً صفر.
النقاط المذكورة أعلاه هي أكبر دلالة أنّ التعثر المالي بدأ قبل استلام حكومة الرئيس دياب. إضافةً إلى ذلك، سجل ميزان المدفوعات أرقاماً سلبية للمرة الأولى في العام 2011 بقيمة 2 مليار دولار وبقيَ مستمراً بهذا الاتجاه بمعدلات سلبية متزايدة إلى يومنا هذا.
لعلّ هذا الشرح المفصّل لِما حصل في آذار 2020 يكون كافياً لدحض كلّ الأقاويل والخبريات التي يدّعي أصحابها المعرفة والخبرة، لا سيما أنهم أمام محكّ الحقائق والوقائع الآنفة الذكر تظهر حقيقتهم ويتبيّن أنّ كلّ ما يقولون ليس سوى فبركات غبّ الطلب…
وعليه قد وضعت حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب خطة للإنقاذ المالية وأقرّتها في نيسان 2020 ورأى الخبراء المنزهون أنها أقرب ما يكون الى الواقع وقابلة للتنفيذ، وعلى أساسها سارت المفاوضات بطريقة أكثر جدية مع صندوق النقد الدولي، غير انّ المتربصين كانوا كثراً واجتمعوا من كلّ المشارب على هدف تفشيل الحكومة وخطتها، وخاصة رئيسها النظيف الكف والاختصاصي الحقيقي، القادر على قيادة سفينة الإنقاذ وإيصال البلد الى برّ الأمان، وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وفي الوقت نفسه لا بدّ من محاسبة المسؤولين عن كلّ هذا الخراب.
*خبير اقتصادي ومالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى