أولى

هزائم وانتصارات…

‭}‬ مأمون ملاعب
يتفق الجميع على أنّ (الجانب العربي) قد مُني بشرّ هزيمة في حربي النكبة 1948 والنكسة 1967. كما أنّ العدو قد احتلّ أجزاء من لبنان عام 1978 واجتاحه وصولاً إلى العاصمة وطرد منظمة التحرير الفلسطينية منه عام 1982. إنما لا يتفقون على نتائج الحروب التي خيضت مع العدو منذ 1993 حتى اليوم. تختلف التقييمات وتتسابق النظريات والتحليلات منطلقة من زوايا نظر مختلفة ولغايات وأهداف متقابلة، إلا أنّ الهزيمة الكبيرة والتي لم نتجاوزها إلى الآن وقعت قبل ذلك وكانت في ميسلون عام 1920 (وسأعود إلى ذلك).
هي… حرب واحدة طويلة جداً وقاسية إلى حدّ أنها وجودية بدأت مطلع القرن الماضي ومستمرة بين أمتنا خصوصاً والعالم العربي عموماً من جهة، وبين الصهيونية العالمية والغرب الاستعماري، سواء كان الغرب منقاداً من اليهود أو أنه استغلّ اليهود (كما يرى البعض) أو أنهما شريكان من جهة ثانية. كلّ ما سُمّي حروباً ليست سوى معارك متنقلة بالمكان والزمان في سياق هذه الحرب، يُضاف إليها كلّ المناوشات والعمليات، من كلا الطرفين والاحتجاجات الشعبية، والمعارك السياسية، والاقتصادية والثقافية على كلّ الأصعدة.
في 14 آب 2006 كان سماحة السيد حسن نصرالله يعلن عن انتصار استراتيجي، بينما كثير من اللبنانيين لا يرونه انتصاراً أصلاً… حتى التحرير عام 2000 هو انتصار للمقاومة عند البعض وتنازل من العدو، إلى حدّ القبول بذريعته «تطبيق القرار 425» عند البعض الآخر.
المعارك التي خاضها العدو على غزة منذ 2008 حققت انتصارات للمقاومة في فلسطين ويراها بعض الفلسطينيين والعرب هزائم ومثلها «سيف القدس» وجنين.
في سورية، محور المقاومة يؤكد انتصار الدولة في حرب عالمية شنّت عليها، فيما آخرون يرون أنّ الدولة مأزومة ولا تبسط سيطرتها على كلّ الجغرافيا السورية عدا عن وقوعها في أزمات شتى نتيجة الحصار الخانق المفروض عليها.
الحرب الاقتصادية هي أحد أهمّ الوسائل في يد الأعداء، هي جبهة بحدّ ذاتها في هذه الحرب الوجودية والأعداء كانوا وما زالوا متفوقين فيها.
أما الوعي، حرب من خلال الثقافة، شكلت جبهة أخرى وكانت هي الأخطر وما زالت، ومن خلالها فرّخت معارك عسكرية أو اجتماعية داخل مجتمعنا ودولنا، فكان للعدو من يقاتل بالإنابة عنه من حيث يدري أو لا يدري مساعداً في تحقيق غاياته الخطيرة، وإذ يندرج ذلك تحت مفهوم الخيانة العظمى، إلا أنّ الخيانة يقوم بها أفراد قلائل (ولو كثروا) وليست جماعات بصفة طائفية أو اثنية أو جماعات سياسية. عند هذا الحدّ تصبح الأمور انحرافاً ثقافياً لكونه لا يراعي مصلحة المجتمع بتاريخه وثقافته وقيمه ولا يراعي مستقبل أجياله القادمة.
لا بدّ من الإقرار بأنّ الانتصارات التي تحققت ليست حاسمة، وهي لذلك قد تحمل تأويلات خصوصاً حين ترافقها نكسات في جبهات أخرى. في السويداء حالياً تظاهرات واحتجاجات تحت مطالب معيشية، اللافت أنّ أحداً لا يطالب الأميركيين بإعادة آبار النفط إلى أصحابها لتحلّ أزمة الوقود وكذلك كهرباء الفرات وقمح الحسكة ولا برفع «قانون قيصر». مطالب معيشية! ما علاقة المذهب؟ هل الوضع المعيشي مرتبط بالمذهب؟ أو أنّ قيامهم بالاحتجاج بصفتهم المذهبية يساهم في إصلاح الوضع؟ الوضع في السويداء واحد من انتكاسات الحرب، حيث تراجعت إرادة وإدارة الدولة ودخلت أميركا وأدواتها من قسد وغيرها إلى الساحة. اكتساب الاحتجاجات صفة المذهبية يربطها بالجولان ولبنان وفلسطين ويغذّيها بعصبية فئوية بينما لو كانت محض معيشية لبقيَت داخلية، وهذا يعني أنّ المسألة هناك مرتبطة بالمسألة السورية من حيث دور الدولة وموقعها وموقفها من المقاومة ومسألة فلسطين. اي هي مرتبطة بالقضية القومية.
إنّ مخطط الشرق الأوسط الجديد والذي وضع منذ سنوات يريد الشام دولاً أصغر وأضعف وذات صفات مذهبية أو اتنية، مثل ما بدأت مخططات سايكس بيكو. كلّ تحركات الأكراد والمطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي تصبّ في خانة دعم مشروع العدو، ويقاتلون بالإنابة عنه، وكذلك حركة بعض الدروز في السويداء تندرج في هذا الإطار، وطبعاً في الخطة نفسها.
تتعاون «قسد» كلياً مع الولايات المتحدة. هي تقاتل من أجل المشروع الأميركي والذي تعتبره مشروع الأكراد بالانفصال، والولايات المتحدة تؤمّن لها السلاح والدعم، وفي تحليل هذا التعاون نتوقف عند ما يلي:
*تحتلّ أميركا آبار النفط في سورية وتسرق النفط وتبيعه بهدف حرمان الشعب السوري من ثروته وضمن تطبيق الحصار عليه. هل تعود عائدات النفط إلى قسد؟ أو إلى الجماعات السورية ضمن الجزيرة المتعاونة مع الاحتلال؟
*قامت أميركا بإحراق القمح في الحسكة للغاية ذاتها، ماذا جنى حلفاء الولايات المتحدة وأوّلهم قسد؟
*الأكراد منتشرون في تركيا والعراق وإيران وسورية وهم يعتبرون أنفسهم شعباً وقومية ويطالبون ببناء دولتهم. هل تقدّم الولايات المتحدة الدعم لهم في تركيا؟ بل إنّ العكس قد حصل حين تعاونت أميركا و«إسرائيل» مع تركيا في القبض على زعيمهم أوجلان.
*لماذا لا تؤيد الولايات المتحدة ما تسمّيه حقوق الأكراد في تركيا، وهم أكبر جالية هناك! كما فعلت في العراق وكما تفعل بسورية؟ ذلك أنّ قضية الأكراد لا تعنيها بل يعنيها شأنها في العراق وسورية لا علاقة للأكراد به.
قبل ذلك بسنوات كانت المحاولة في لبنان. ثقافة الانعزالية ذهبت بأحزابها إلى حدّ المغامرة بلبنان عام 1975. انطلقت آنذاك من أنّ الفلسطيني عدو لبنان والصيغة اللبنانية، وأرادت طرد الفلسطينيين من لبنان دون تحديد وجهة الطرد. من البديهي أن يعود الفلسطينيون إلى فلسطين ومن البديهي أيضاً أنّ وجودهم في لبنان قسري يتحمّل مسؤوليته العدو والاستعمار الغربي وليس الفلسطينيين. قضية فلسطين لا تعني الانعزاليين و»إسرائيل» ليست عدواً، بل على العكس تعاونوا معها وتدرّبوا عندها وقاموا بتنفيذ مشروعها الذي كان سيذهب بهم إلى الهلاك والتهجير لولا الحماية السورية. لكنهم استمرّوا بمشروعم المريض وصولاً إلى التحالف مع العدو ومساعدة جيشه خلال احتلاله لبنان ظناً أنهم يقيمون دولتهم.
لم يكونوا إلا أداة في خدمة مشروع العدو بإخراج المقاومة الفلسطينية والجيش السوري من لبنان، لذلك بعد تحرير بيروت كانوا يطالبون بقوات دولية، ومع تحرير الجبل كانوا ضحية خديعة اليهود لهم، والأغرب أنهم استمروا بالعمالة في الشريط المحتلّ ليقعوا ضحية مصلحة العدو للمرة الثانية. والأحزاب ذات الثقافة الانعزالية ما زالت حتى اليوم تعمل لمشروع العدو الصهيوني في ما تظنّه مشروعها، عدوها المقاومة وسورية، وأصدقاؤها الولايات المتحدة والغرب والأصدقاء الجدد دول الخليج التي اتخذت المنحى السياسي نفسه خصوصاً خلال الأحداث في سورية.
لماذا كلّ الحركات الانفصالية أو التقسيمية مرتبطة بالولايات المتحدة وبالتالي بالصهيونية؟ يضاف إليهم من حمل لواء الوحدة بلون مذهبي! دعاة الخلافة من النصرة وداعش وأمثالهم والإسلام المعتدل الإخواني وحركات المعارضة الإسلامية في سورية كلهم مرتبطون بالولايات المتحدة والغرب؟
هذا الشرق الراسخ فوق أولى الحضارات البشرية والمختزن الكثير منها، المتجذر في التاريخ من ما قبل الحضارة الإنسانية الأكثر تنوعاً والأغنى بالثقافة. في هذا الشرق تتصارع الامبراطوريات والدول وتكثر الخطط والمشاريع التي تحاول رسم مستقبلنا. أهمّ شروط نجاح الاستعمار حليف الصهيونية هو تمزيق وحدتنا وتدمير شخصيتنا وتاريخنا. بتنا نجهل هويتنا بل شعب بهويات وانتماءات مختلفة. هوية الكيان لا تكفي وحدها. لبناني؟ لا بل لبناني شيعي او ماروني او سني، أو… عراقي؟ كردي أو عربي سني أو شيعي او.. كذلك في الشام أو الأردن أو…
في خطاب سماحة السيد باحتفال تحرير الأسرى تسأل عن هوية المنطقة وقال إنها المقاومة م، ق، ا و، م، ة. المقاومة فخرنا واعتزازنا لكنها ليست هويّة. هي وسيلة ودرب وخيار وإرادة وعزيمة وتضحية، لكنها ليست هوية ولن تكون بديلاً عن هوية ضائعة خلال وبعد سلسلة من الهزائم.
خلال الحرب العالمية الأولى وضع مخطط تقسيم أمتنا وتمّ تنفيذه بعد الحرب بالخديعة والقوة وبدأ العدّ لتنفيذ مشروع إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين. رفض الغرب الاستعماري المتمثل ببريطانيا وفرنسا آنذاك القبول بقيام مملكة سورية التي كانوا قد وعدوا بها، وتحرك الجيش الفرنسي نحو دمشق لإسقاط الدولة الناشئة وحكومتها. تصدّى لهم يوسف العظمة في ميسلون مسجلاً باستشهاده رفضاً يدوّنه التاريخ. هزمنا كأمة وقامت الكيانات وبعد الحرب العالمية الثانية تهيأ الجو للاستعمار والصهيونية لإعلان قيام «دولة إسرائيل»، كما مثلت الأمم المتحدة ما عُرِف بـ الشرعية الدولية، ومع دخول «إسرائيل» عضواً في الأمم المتحدة، مثل كيانات أمتنا، اكتسبت شرعية وجودها (من هذا المضمار) وشرعية الدفاع عن النفس وخسرنا المطالبة رسمياً بتحرير فلسطين. اعترفت الأمم المتحدة بدولة قامت على الوحشية والاغتصاب والتهجير. دولة لا دستور لها ولا حدود كبقية دول العالم. دولة تتوسّع على حدود دول، معترف بها أصلاً، ولا تسمي الأمم المتحدة ذلك احتلالاً بل تواجداً كما ذكر القرار الأخير موضوع بلدة الغجر. هزمنا آنذاك واستمرت الهزيمة إلى حدّ التكيّف معها ثم خلفت لنا الهويات المستجدة صراعات وخلافات وهزائم من أيلول الأسود إلى صبرا وشاتيلا مروراً بتل الزعتر والضبية ثم وصولاً إلى أوسلو، من الكويت الى بغداد وصولاً إلى مدريد. في الأمر المفعول يحقّ للأردن الذهاب الى وادي عربة ويحقّ للسلطة الفلسطينية، صاحبة القرار الفلسطيني الشرعي الوحيد «الذهاب الى التنسيق الأمني مع العدو… في الأمر المفعول اجتهد حزب الله في الدفاع عن نفسه بدخوله الحرب في الشام قائلاً إنّ في ذلك دفاعاً عن لبنان. والحزب نفسه لا يصرّح أنّ سلاحه لتحرير فلسطين، مجاراة للبننة، سلاحه لتحرير أرض لبنانية محتلة والدفاع عن لبنان، ولهذا يتراكض البعض لحلّ مسألة نقاط الخلاف مع العدو ومسألة مزارع شبعا ظناً أنهم يسحبون من الحزب حجة السلاح.
وحده حافظ الأسد، بين القيادات العربية في العصر الحديث، تميّز وتناول الأمور بحكمة واستراتيجية. بهدوء كلي أعدّ العدة للحرب فكانت حرب تشرين 1973 المجيدة والتي أثبتت في بداياتها قدرة وتفوق جيوشنا على جيش العدو، لكن سرعان ما تدخلت الولايات المتحدة عبر مصر فحيّدتها ومدّت الجسور العسكرية تساعد العدو لمنع هزيمة ساحقة. في المفاوضات حول الجولان تبيّن بوضوح أنّ المطالب السورية تذهب لأبعد من الجولان، وفي الحرب الأهلية في لبنان تعامل بذكاء وحكمة لإعادة استعادة لبنان الى حضن الأمة وشعاره شعب واحد في بلدين، قال إنّ فلسطين هي الجنوب السوري، فردّ عرفات على ذلك أنّ سورية شمال فلسطين، مؤكداً سقوطه في المشاريع الكيانية والتي أوْدت به لقبول الاحتلال مقابل سلطة على جزء من فلسطين لم يحصل عليه.
حاول الأسد الوحدة مع العراق في خطوة جبارة قطعها صدام. أيقن بعد حرب 1973 وفي ظلّ الظروف الدولية القائمة أنّ البديل عن حرب الجيوش من أجل التحرير هو حركات المقاومة التي ساندها وقد فارق الحياة خلال مكالمة هاتفية يهنئ فيها الرئيس اللبناني اميل لحود بالتحرير.
لا شك في أنّ تحرير لبنان كان انتصاراً استراتيجياً لكونه تمّ بدون مفاوضات ودون تنازل ويمهّد لمثله في فلسطين، وأنّ الانتصار في حرب تموز 2006 هو استراتيجي أيضاً لأنه صدّ أهداف الجيش الذي قيل عنه لا يُقهر، وحقق أهداف المقاومة باستعادة الأسرى وردع ذاك الجيش، لكن «إسرائيل» ومن ورائها الصهيونية والغرب ما زالا يملكان الكثير من القوة يمارسون علينا مخططاتهم وما زلنا نعيش في أزماتنا ومشاكلنا، نعيش أوجاعاً وصبراً مريراً وما زلنا في حالة الردّ والدفاع في معظم الأماكن تجاه العدو (فلسطين) أو تجاه مشاريعه (سورية والعراق ولبنان). ما هو حق وجود الجيش الأميركي في سورية؟ ما هو حق وجود الجيش التركي أيضاً؟ من يملك القوة لا يراعي شرعية ولا يراعي حقاً بينما نحن أصحاب الحق (أبناء الأرض التاريخيون) وأصحاب الشرعية التاريخية والأخلاقية والإنسانية والقومية نحتاج إلى استعمال قوتنا في دعم الحق وردّ الظلم. نحتاج أن لا نراعي الأعداء ولا أدواتهم حين نمتلك القوة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى