أولى

دولة العجزة بانتظار لودريان!

‭}‬ د. عدنان منصور *
كم تبدو الدولة قزماً عندما تقودها أيادي ثلة من عجزة الحكم، لا حول ولا قوة لهم، ما استطاعوا يوماً أن يحافظوا على كرامة شعب، وسيادة بلد.
وطن قلّ فيه الرجال، وكثر فيه المغامرون وعشاق الحكم، ليديروه بكلّ استخفاف على طريقتهم الخاصة، غير مبالين بنقمة وسخط الشعب، أو باحتقار مسؤولي دول العالم لهم لسلوكهم السيّئ وأدائهم العفن في إدارة الدولة ومؤسساتها.
نوع مهترئ ومقزز من المسؤولين لا يمكن لمراقب ومتابع لأدائهم، أن يرى مثيلاً لهم، في بلد ينهار أمام أعينهم، فيما غالبيتهم يستجمّون في الداخل والخارج، يتنقلون بين البلدان ومنتجعاتها، وكازينواتها، وشواطئها.
دولة تعيش في فراغ، وتتسارع في انهيارها، فيما الممسكون بالسلطة يزايدون على بعضهم البعض،
بالسياسة، والوطنية، والنزاهة، والغيرة على حقوق الشعب، والحرص على مصالح الوطن.
إنهم ينتظرون الترياق من الخارج، فيما البعض منهم يعوّل، ويعلق «آماله الكبيرة» على زيارة المبعوث الفرنسي جان إيڤ لودريان، «المعلم» والخبير الذي سيلتقي بـ «بتلاميذ نجباء»، يستمع إليهم، ليعرف مدى «جديتهم»، وتجاوبهم مع اقتراحاته، وتوجيهاته، ليقيّمهم ويعرف من فيهم النجيب، والمتمرّد، الصادق، والصامت، المتحفظ، والمراوغ، المبارك، والمعارض.
كم هو ممقوت المسؤول الذي لا يستطيع ان يدير حكم بلده، ويقوده بجدارة ومسؤولية عالية وقت الشدة! إنه بذلك يظهر عجزه وفشله، ويرمي حمله الثقيل على الآخرين، ينتظر ممن سيأخذه من «أجاويد» الخارج
بالأحضان، كي يعملوا على انتشال بلده من القاع الذي وضعته فيه الزمرة الحاكمة.
من عجائب هذه الزمرة، أنه في كلّ مرة يصل البلد على يديها إلى قاع المستنقع، تجدها بسياساتها العقيمة ونهجها الأحمق، تفشل في انتشاله، فتعمد إلى حفر القاع لتوصله بما فيه، الى نفق مظلم أكثر عمقاً وخطورة.
حكام فاشلون لدولة تترنّح، ونظام عقيم، ما استطاعوا مرة ولن يستطيعوا، لا الأمس ولا اليوم ولا غداً بناء الدولة القادرة المقتدرة، التي أرادوها على الدوام أن تكون لهم شركة حصرية بهم، ذات منفعة خاصة،
لتثبت للعالم كله، مدى تحللها المؤسسي، وانحدارها الأخلاقي، عندما أدارت البلاد وقهرت العباد من داخل مغارة قادها «علي بابا سلامة» وشركاؤه.
الكلّ منهمك اليوم وينتظر! وسائل الإعلام كعادتها، تتنافس في ما بينها، وتتسابق لتنقل الأخبار تلو الأخبار «السعيدة» عن المبعوث الفرنسي القادم، جان إيف لودريان، تتزاحم على المعلومات المتلاطمة الجديدة وما أكثرها: لودريان سيأتي. لودريان لن يأتي. لودريان أجّل زيارته. لودريان سيمثل اللجنة الخماسية. لودريان وجّه أسئلة لزعماء البلد. لودريان ينتظر الأجوبة. لودريان يحمل في جعبته اقتراحات. لودريان سيستمع الى «زعماء» لبنان و»جهابذته» و»مقاوليه» والى أجوبتهم على أسئلته، ومطالعتهم العصماء حول انتخاب رئيس للجمهورية ومواصفاته، وشخصيته، ومستقبل النظام!
شهر وراء شهر، وتسعة أشهر وأكثر تمرّ، ولبنان المعلق في الفضاء، على لائحة الانتظار الطويل، يشهد اجتماعات، ولقاءات، واتصالات، ومبعوثين، وسفراء «انتداب» يوعظون، يرشدون، يعلقون، ينصحون، يغضبون، يوجهون، ينتقدون، فيم عجزة السلطة والحكم ومقاولو البلد وتجار السياسة، غير مبالين بانهيار دولة، وبقاء وطن، وحياة شعب.
هم في قيلولة واستراحة دائمة، بعد أن حققوا ما حققوه لأنفسهم، ولحاشيتهم من «إنجازات» باهرة، ببركة و»نزاهة» قضاء «شريف»، و»شفافية» قانون، و»نظافة كف» مسؤول، و»رقابة» حازمة لمؤسسات دستورية وقانونية، و»دور عظيم» لمنظمات «المجتمع المدني»، و»بصيرة ووعي» وقاد للمواطنين!
أمام المشهد اللبناني المخزي والمعيب، وأمام مجموعة من «مسؤولين»، فاشلين بكلّ المقاييس، سيجد لودريان نفسه مشمئزاً ومحبطاً، عندما يعلم أنّ دولة منهوبة من قبل مافيا، جعلوها تفتقر لمبلغ هزيل من المال، وتعجز عن دفع ثمن ترجمة تقرير لشركة التدقيق العالمية «ألفاريز ومارسال».
من غير المستبعَد أن يتمتم لودريان في نفسه، ويقول: أيّ نوع من أنواع البشر هؤلاء المسؤولين الذين يحكمون ويتحكّمون ويعبثون بلبنان! وأيّ شعب هذا الشعب الذي يرضى بطغيان، واستبداد، واستهتار هذه الزمرة من السياسيين الذين يعجزون عن انتخاب رئيس للجمهورية، فكيف الحال بهم وهم يديرون بلداً بكامله !
لودريان قد يستذكر سجن الباستيل ويقول في داخله: إنّ أيّ شعب في هذا العالم يعيش حالة شعب لبنان، لا بدّ له من أن ينتفض ويثور من تلقاء نفسه، ليطيح بطغاته وجلاديه، ويضعهم في المكان الذي يستحقونه. لكن لودريان وللأسف الشديد، سيرى أنّ القبور قد انتفضت من تلقاء نفسها في لبنان في وجه أحطّ طبقة
حاكمة، فيما «الأحياء» فيه، لا زالوا نياماً في كهوفهم المظلمة، وصور جلاديهم ومعبوديهم، معلقة فوقهم على الجدران المتصدّعة، الآيلة إلى السقوط على رؤوسهم، ينتظرون معجزة تبعثهم من جديد بقدرة قادر، وإنْ كان عصر المعجزات قد ولى.
أيها المبعوث الفرنسي جان إيڤ لودريان! هل سمعت يوماً بالمثل العربي الرائج: مكة أدرى بشعابها؟! حكام لبنان أدرى بشعابهم. فمن غير المستبعَد أن تتيه سيد لودريان في شعاب لبنان. ففي هذه الشعاب عشرات الأفاعي والعقارب تلدغ كلّ من يسير فيها. وكم من رئيس، وحاكم، وزعيم، ووزير، ونائب، ومسؤول، ومواطن وطني، حر، أبي، شريف، من أبناء هذا الشعب الصابر المعذب، المسحوق، لدغتهم الأفاعي مجتمعة، حتى تظلّ تسرح وتمرح في شعاب الوطن، تاركة قتلة البلد والشعب، يعربدون، يستبدون، ينهبون، يستبيحون كلّ شيء، بما فيه الحجر والبشر، فيما الوطن متعطش لمخلّص ينقذهم من جحيمهم.
بكلّ تأكيد لن تكون أنت سيد لودريان المخلّص للبنان، أو المنقذ لشعبه! أنّ المنقذ والمخلص الوحيد لا يأتي من الخارج، وبدمغة منه، وإنما يأتي من معاناة الداخل، من صفوف أبناءالشعب، من بين البؤساء، والمقهورين، والمسحوقين، والمغبونين، والمحبطين، والمنهوبين، الذين أصبحوا غرباء في وطنهم، والحالمين بغد يوفر لهم العدالة، والكرامة، والأمان، والاستقرار ولقمة العيش، وحقوق الإنسان.
لن تستطيع مطلقاً سيد لودريان ان تأخذ وعداً شفافاً من زمرة نهمة من أصحاب البطون المنتفخة ابتلعت وطناً بأكمله. فكيف يمكن لك التوصل معها الى حلّ جئت من أجله، وهم أركان الدولة المهترئة التي عجزت أجهزتها وقضاؤها، حسب زعمها، عن تبليغ مذكرة قضائية للص هارب من وجه العدالة.
سيد لودريان!
لا تعوّل على نجاح مهمتك، لأنّ العديد من الذين ستلتقي بهم، يمارسون الكيدية، والترف السياسي. إنّ بلداً ينتظر مسؤولوه من دول الخارج، التوفيق بينهم، وحلّ مشاكلهم، وترتيب أوضاعهم، وجرّهم الى طاولة حوار، هم مسؤولون أتباع قصّر، لا يستحقون وطناً، ولا يشرّفونه. الذين لا يستطيعون حلّ مشاكل بلدهم بمسؤولية وطنية غير مؤهّلين ليتولوا المناصب لحكم بلد وإدارته.
سيد لودريان…
ما يؤلم اللبنانيين الشرفاء، أنّ الزمرة الحاكمة جعلت من لبنان، دار عجزة للمسؤولين السياسيين الفاشلين المتاجرين بالوطن والشعب، فيما لبنان اليوم في نفق مظلم، وهو يشهد تطورات متسارعة، ومتغيّرات خطيرة، ومخيفة على الأرض، تهدّد كيانه ووحدته، ووجوده في الصميم، حيث ينزلق الى الهاوية على يد طغاة السلطة الذين يقودونه إلى تقسيم كيانه وتفتيته.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى