أولى

هل يمكن وقف العدوان الوحشي على غزة؟

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
«نعم» و «لا» احتمالان موضوعيان يتضمّنهما الجواب المباشر على مثل هذا السؤال المشروع الذي قد يخطر على أذهان الكثيرين… «نعم» مشروطة بعدد من المتطلبات الأخرى، و»لا» مطلقة، لكن يمكن جعلها مشروطة لتصبح قابلة للتبلور والاستخدام، فمنذ اللحظة التي بدأ فيها عداد الشهداء والجرحى في غزة الذبيحة بالتسارع كان واضحاً أنّ الأرقام ستتجاوز كلّ التوقعات، ومن لم تُخْدَشْ مشاعره وتثور في أعماقه براكين الغضب والتحرك لاستشهاد أكثر من مئة طفل ومئات السيدات الفلسطينيات منذ الساعات الأولى للجنون الصهيوني لن يعرف أي شكل من أشكال التعبير عن الغضب حتى وإنْ تجاوز عداد الشهداء الاثني عشر ألفاً، بل وحتى لو بلغ عشرات أو مئات الآلاف… ومن لمِ يُلْقِ بالاً لقصف المشفى المعمداني على من فيه من اللائذين بمؤسسة دينية مسيحية صحية لن يعرف ما يعنيه الألم الداخلي، ولا موت الضمير الإنساني حتى لو دمّرت جميع البيوت والمدارس والأفران والكنائس والمساجد والمراكز الصحية بما فيها تلك التابعة منها للمنظمة الدولية، بل حتى لو سُوّيت غزة بالأرض بكل ما فيها ومن فيها. وهذا معروف لدى أصحاب أنصاف المواقف أفراداً كانوا أم مؤسسات ومنظمات وأحزاباً، أم شعوباً ودول متعددة بغض النظر عن هويتها عربية كانت أم غير عربية، مسلمة أم مسيحية أم غير ذلك من تصنيفات دينية وإثنية وعرقية وجغرافية. والجميع مدانٌ في محكمة الضمير الإنساني أمام استمرار حكام تل أبيب باغتيال الطفولة والبراءة والكرامة والحقوق الفردية والجماعية والقيم الإنسانية، والضرب عرض الحائط بكلّ ما له علاقة بقوانين تصنيف جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وهذا يدفع للتساؤل المشروع: هل يمكن وقف شلال الدم الفلسطيني الذي يزداد غزارة وسرعة نزف من شعب لا ذنب له إلا وجوده بحكم الحتمية الجغرافية على الأرض الفلسطينية بغض النظر عن التحديد في الضفة أم في القطاع، أي أن الموضوع غير مرتبط بعلاقات عداوة أو صداقة، ولا بالاصطفاف في محور مقاومة أم في تجمع المطبعين المستسلمين والمهرولين سراً وعلانية لكسب رضا نمرود القرن الحادي والعشرين الذي يعتقد كل من ينضوي في كنفه أن الفلسطيني أو العربي الجيد هو ذاك الميت فقط، وكل من تبقى ليسوا أكثر من مخلوقات يجب العمل وفق العُرف الصهيو ـــ أميركي لإبادتها وسلبها الحق بالحياة.
أمام هول هذه الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، والتدمير الممنهج وغير المسبوق في التاريخ، وأمام الإصرار الإسرائيلي والجنون المتوحش والمدعم أميركياً لإبادة غزة كخطوة أولى، تتلوها إبادة ثانية للضفة الغربية، وثالثة تضع في أجندتها اليومية إبادة الفلسطينيين من سكان أراضي 48، ورابعة تتضمن ملاحقة مَن يبقى حياً من الفلسطينيين في كل مكان يقيمون فيه أينما كانوا منتشرين على امتداد الجغرافيا الكونية، وأمام العجز المعلن للنظام العربي الرسمي عن كبح جنون الحقد الصهيوني، أو تخفيف سرعة دوران وصخب طاحون الموت التي تفرم وتهرس قيم الطفولة والأنوثة وحق الحياة لجميع الكائنات يصبح من المهم طرح التساؤل المشروع: هل يمكن وقف العدوان الوحشي والهمجي الممنهج على غزة بخاصة، وعلى الوجود الفلسطيني بعامة؟ والجواب وبدقة كبيرة ويقين شبه مطلق: «نعم» يمكن فرض إيقاف القتل والإبادة. و»لا» لا يمكن ذلك، والسبب في جمع المتناقضين معاً متعلق بفعل ـــ أو لنقل برد فعل ـــ كل من له رغبة وقناعة بضرورة وقف جداول شلالات الدم الفلسطيني التي لم تعرف البشرية مثيلاً له قط، ولتوضيح ذلك بطريقة مبسطة ومفهومة للجميع يمكن التوقف عند بعض العناوين والأفكار المهمة، ومنها:
ـ ما أنجزته المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول الماضي يؤكد صوابية نهج المقاومة، وجدوى مراكمة عوامل القوة الذاتية لاستخدامه في التوقيت المناسب ضد القوة المفرطة وآلة القتل والإبادة الصهيونية، وكما ثبتت نجاعة ذلك بنسب مختلفة وفق حجم ونوعيّة الرد بما يمتلكه الفلسطيني من عوامل قوة ذاتية وموضوعية يمكن زيادة نسبة المردودية بزيادة الحجم والنوعية والاستمرارية في الرد على القوة بالقوة. وهذا أمر ممكن ومشروط بتوسيع دائرة النهج المقاوم الفلسطيني على كامل الجغرافيا الفلسطينية، وللأسف هذا الأمر ما يزال خارج الإمكانية.
ـ من حق الفلسطيني في غزة وغيرها أن يتمنّى على الشعوب والدول والمنظمات تقديم الدعم المطلوب ولو بحدوده الدنيا لإيقاف ماكينة القتل والإبادة الفلسطينية، وقد يكون مشروعاً أن يقول أحدٌ ما في هذا العالم للفلسطيني الذي من حقه أن يفكر في ذلك، بأن عليه أن يعمل قبل كل شيء لإلغاء كل ما له علاقة بتنسيق أمني بين السلطة الفلسطينية في رام الله وبين سلطات الاحتلال الصهيوني، والإعلان رسمياً عن موت جميع ما تمّ التوقيع عليه من اتفاقيات مع حكام تل أبيب الذين نحروا السلام وعملية السلام، وكل مقوّمات إنسانية الإنسان. وهذا أمر ممكن نظرياً، لكنه مشروط بامتلاك الإرادة والقناعة لدى من يروق لهم التواصل مع سلطات الاحتلال البغيض، وبالتالي إمكانية بلوغ ذلك منتفاة عمليا، ولذا فإن الجواب: نعم ولا في الوقت نفسه.
ـ تشديد الخناق على الغزاويين ومنع دخول الماء والغذاء والدواء والوقود يضاعف أعداد الشهداء والجرحى، ويمكن لكلّ ذلك أن يتوقف دفعة واحدة إذا أقدمت مصر والأردن على كسر هذا الحصار القاتل، وهذا أمر ممكن نظرياً لكنه مشروط بعدة محددات، وجميعها كما يبدو غير ممكن، ولذا فإن الجواب: نعم ولا في الوقت ذاته.
ـ اتساع دائرة الحرب وزيادة مستوى الانخراط المباشر لتشمل بقية أقطاب المقاومة وبخاصة حزب الله والمقاومة الشعبية العراقية واليمنية، وقد أوضح سماحة السيد حسن نصر الله أنّ حزب الله دخل الحرب منذ اليوم التالي أي منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، كما شرح انضمام المقاومة العراقية واليمنية للمشاركة في الأعمال القتالية، وزيادة مستوى تسخين الأوضاع يعني دخول الدولتين السورية والإيرانية بشكل مباشر وعلني في الحرب، وهذا يهدد بتفجير المنطقة بكل من فيها، ومسؤولية اشتعال حرب بهذا المستوى كبيرة جداً، لأن حساب النتائج المتوقعة والدمار الكبير الحتمي لدى جميع من تلفحهم ألسنة النار واللهب يفرض إعادة الحسابات أكثر من مرة، وعدم التساوق مع رغبات نتنياهو المأزوم والمستميت لتوفير إمكانية الهروب إلى الأمام ولو أدى الأمر إلى تفجير المنطقة، فالأهم لديه خلق ظروف جديدة تحول دون محاكمته، وتؤجل ما أمكن دخوله السجن ونهاية حياته السياسية، ولذا فإن إمكانية اتساع الحرب وتصعيد مستوى الاشتباك القائم أمر ممكن، لكنه مشروط أيضاً بعدد من المحددات المتشابكة، ولذا يبقى الجواب: نعم ولا.
ـ رفع الصوت أكثر من قبل بعض القوى العظمى «روسيا ــــ الصين»، وهذا ممكن نظرياً، لكنه غير كذلك عملياً، فكل من القوتين العظميين ترتبط بعلاقات جيدة مع تل أبيب، فضلاً عن محددات سياسة القوى العظمى المختلفة عما هي عليه عند بقية الدول، ولذا فإمكانية وقف العدوان الوحشي في غزة بتدخل مباشر من موسكو أو بكين أمر ممكن نظرياً، لكنه ليس كذلك عملياً، ولذا يبقى الجواب نعم ولا في الوقت ذاته.
ـ اتساع دائرة الرفض الشعبي على المستويين الإقليمي والشعبي كبيرة ومهمة، لكنها لم تصل مستوى القدرة على تغيير المواقف الرسمية للدول، كما أن المجتمع الدولي الدائر في الفلك الصهيو ـــ أميركي ما يزال قادراً على ممارسة الكثير من النفاق الذي يضمن استمرار تعطيل ترجمة الإرادة الفعلية للمجتمع الدولي، فضلاً عن أن انتظار حدوث ذلك قد يستغرق وقتاً طويلاً تكون آلة الحرب الصهيونية حصدت آلاف الأرواح البريئة الجديدة. وهنا يكمن التحدي الأكبر والمسؤولية التي يجب العمل بأكثر من أسلوب وطريقة لوقف الوحشية الإسرائيلية، وتعطيل قدرتها على الاستمرار بالتقتيل والإبادة.
ـ تبقى إمكانية المراهنة على الداخل الإسرائيلي نفسه وتسريع بلوغه عتبة خارج قدرة المستوطنين على الاستمرار بالاستمتاع بسفك الدم الفلسطيني، وهذا الأمر خارج إمكانية الفلسطينيين بمفردهم، والمراهنة على جدوى ذلك قد تتطلّب شهوراً، وهذا يزيد عداد الشهداء والمعاناة التي فاقت كل وصف وتقدير.
ـ الأمر الأهم يتعلق بزيادة استهداف القواعد الأميركية والوجود الأميركي الاحتلالي في سورية والعراق على وجه الخصوص، ورفع مستوى الاستهداف لتعجيل دوران عداد الخسائر البشرية الأميركية، مع الأخذ بالحسبان بأن الوحشية الأميركية تتجاوز الوحشية الإسرائيلية، لكن تبقى التوابيت الأميركية التي تعبر الأطلسي باتجاه البر الأميركي المعادل شبه الوحيد لوقف الإبادة الإسرائيلية الممنهجة ضد الوجود الفلسطيني بكلّ مظاهره.
خلاصة
من المهمّ مساعدة الأميركيين، والعمل بشتى السبل لزيادة خسائرهم البشرية ودفعهم للانتقال من خانة المراهنة على تعب الفلسطينيين وبقية أطراف المقاومة إلى خانة الاضطرار لتغيير أساليب التعامل مع شعوب المنطقة، وهذا ممكن ومشروط، وعلى كل محبي القيم الإنسانية التفكير بجدوى هذا المعادل الموضوعي الممكن وشبه الوحيد.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى