أولى

معركة الوعي

مأمون ملاعب

أحد تأثيرات الحرب الحالية في فلسطين هو إعادة خض الترسبات الراكدة في الوعي عند شعبنا. الحالة القائمة اليوم، وهي في معظمها بُنيت أو دُعمت من قبل الغرب الاستعماري، تواجه تحدياً كبيراً في إمكانية استمرارها.
إنّ فكرة إنشاء أو إقامة (وطن)، كيان لليهود على أرض فلسطين ليست بفكرة عادية، تنفيذها ليس سهلاً بل صعب ومعقد جداً في بداياتها ومن ثم في استمرارها. فلسطين ليست وطناً بحدّ ذاته بل هي جزء من بلاد الشام، سورية، وهي مأهولة بشعب منذ آلاف السنين وقد أكد على انتمائه في المؤتمر السوري عام 1919. وفلسطين لها خصوصية المقدسات الإسلامية والمسيحية. مشروع إقامة كيان لشعب غريب على أرض مأهولة يتطلب تهجيراً واسعاً، ومن ثم فإنّ الكيان المقام يتطلب حماية دائمة لكونه محاطاً بالأعداء.
البداية كانت من تقسيم سورية وإيجاد كيانات إما ضعيفة عاجزة أو غير مستقرة وجعلت فلسطين كياناً بحدّ ذاته لكي لا تبقى مرتبطة بسورية ومن أجل أن تصبح في ما بعد قضية فلسطين هي قضية الشعب الفلسطيني وحده. من أجل نجاح المشروع أيضاً لا بدّ من خلق عصبيات جزئية داخلية متنافرة ومدمّرة للعصبية الوطنية الجامعة. إذا ألقينا نظرة إلى العراق ما بعد الاحتلال الأميركي نجده مفتتاً اثنياً ومذهبياً في الدستور والحكومة والشعب.
أما النقطة الأهمّ هي استثمار الأميركي في الحالة الكردية. أعداء الأكراد العراقيين هم العرب العراقيون والولايات المتحدة حاميتهم وبالتالي (إسرائيل) صديقتهم. لم تكتفِ الولايات المتحدة بزرع قواعدها في شمال العراق بل حوّلته إلى مرتع للموساد، ماذا تعني اليوم قضية فلسطين للأكراد؟ وهذا ما ينطبق على الأكراد في الشام أيضاً. المستغرب أنّ الأكراد غارقون في المغريات الشاذة غافلين عن ازدواجية التعامل مع أكراد تركيا من قبل الولايات المتحدة و(إسرائيل). وما يعنيه ذلك من الاستثمار في مصيرهم.
قد يستغرب البعض ما يصدر عن البطريرك الماروني بشارة الراعي من تصريحات وخطب في شأن الحرب الجارية، لكن موقفه هو امتداد لمسيرة بدأت منذ الانتداب الفرنسي. كان أساس نشوء لبنان (الكبير) إغراء بدولة مسيحية الطابع غربية الهوى منفصلة عن سورية بعيدة عن العروبة، بمعنى أن لا يرتبط لبنان بالقضية القومية، لم يكن عند القيّمين على هذا الشأن من مانع، ليس بالحياد فقط بل بالتوافق والاتفاق مع اليهود. في منظورهم أيّ شأن فلسطيني لا يخصهم ويتعامون بقصد مريب معيب عن وجود مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. لقد دفع الشعب اللبناني آلاف الضحايا والشهداء من أجل الاتفاق على هوية لبنان، مما يدلّ على رفض فئة كبيرة اعتبار لبنان عربياً وهو ما يعكس السبب لوجوده، ومع أنّ الانعزاليين قد خسروا الحرب عملياً إلا أنّ الاتفاق وصل إلى تسوية: لبنان ذو وجه عربي.
استمر الاحتلال البريطاني لبعض الخليج إلى وقت متأخر نسبياً، ثم تحوّلت مناطق الاحتلال إلى دول، مشيخات وامارات هي بالحقيقة عروش على المال. لا الدول دول ولا الشعوب شعوب. مال كثير يصرف بقرار راعي الدولة فكان لعنة وكارثة على العرب والإسلام في الوقت نفسه.
كيف نستغرب مواقف الإمارات أو البحرين أو قطر؟ أصحاب العروش يعبدون العرش ومن يحميه والناس تعبد المال وملحقاته والجهل هو السيد العام.
دول القرار قادرة على الاستحواذ على كلّ المال ومع أنها استفادت منه بالكثير من المشاريع الفارغة المحتوى إلا أن الجزء الأهمّ صرف في تدمير دول كان من الممكن أن تشكل مواجهة، وصرف في محاولة تدمير شعوب بتاريخها وثقافاتها وشل إرادة النهضة والارتقاء.
مليارات الدولارات صُرفت في التشويه والتخريب. نحن ندرس في الكتب تاريخاً مشوّهاً كُتب ليوافق الايدولوجيات الناشئة ونسمع في الإعلام كلاماً مفتتاً محرّضاً، بل انّ الكثير من خطب المساجد والدروس من بعض رجال الدين أعدّت للفتنة وإثارة النعرات. كلّ المفردات مباحة حتى ما اعتبرناه جميلاً يستعمل قبيحاً، العروبة ليست في قضية فلسطين ولا في شأن عربي ولا حتى في الجامعة العربية، لكنها جيدة إذا ما اعتبرت عدوة الفارسية أو الكردية. الإسلام، وسيلة جيدة لتكفير الشيعة، لجلب عشرات الآلاف من (المجاهدين) ضدّ (النظام العلويّ) وضدّ الحزب وإيران الشيعيّين. لم يقبض هؤلاء مالاً للإفتاء بالجهاد في فلسطين، مع أنّ الجهاد هناك لا يحتاج فتوى. وهناك انتهاكات يومية لقبلة المسلمين الأولى ومسرى الرسول !
إنشاء الكيان الإسرائيلي تطلّب تقسيم الأمة وإضعافها لكن استمراريته تطلب إلغاء الذات وإفقاد الشعب مناعة الرفض والمقاومة واستبدالها بحسّ الخنوع وقبول الأمر المفعول بصفة الأمر الواقع والإقرار بأننا شعب ضعيف ومتخلف أمام الغرب القوي المتقدم القادر. كان المفترض، في خططهم أن تنتهي قضية فلسطين عبر مسيرة التطبيع بدأ بمصر ومروراً بأصحاب القضية حسب المفترض، اي الفلسطينيين ثم الدول الضعيفة والمشيخات أما من ترفض تُضرب وتركع. كانت المخططات من أجل يهودية الدولة بتهجير الفلسطينيين من الضفة والداخل وحتى القطاع إذا أمكن، وهو ما حاوله العدو مؤخراً، على قدم وساق.
المقاومة، حدث خارج السياق، أبعد من التوقع وأصعب من أن تقبل. المقاومة بحد ذاتها تمرد على الداخل المستسلم وتحدٍّ للخارج المخطط وفرض للذات الموضوعية وتمسك بالحياة التي نريد.
الحرب الجارية اليوم أسقطت التطبيع كمشروع وأجبرت (اسرائيل) على الاعتراف برفضها الحقيقي لاتفاقية أوسلو التي سقطت نهائيّاً. الحرب أعادت فلسطين القضية إلى الأردن والى العراق ووقف لبنان متحدّياً مقاتلاً متمسكاً بتحرير فلسطين. الجيش الأميركيّ أصبح حارس حدود الكيانات في البو كمال والتنف وحامي مشاريع التجزئة في سورية والعراق. الحرب الحالية أيقظت الثقة في شعبنا بنفسه وقدرته وأحيت الآمال بالنهوض والانتصار. الأمر الأهمّ هو سقوط حواجز التفتيت والتفرقة وعودة القناعة بمن هو العدو كما سقوط الغرب من علياء التقدّم إلى مستنقع العنصرية والهمجية وسقوط الصهيونية من عجرفتها وتعاليها إلى مزبلة الكراهية والتعصب والوحشية.
قدر العالم أن يكون التغيير نحو الأفضل يبدأ من الشرق وأن الخير والإنصاف والعدالة قيم مشرقية أولاً…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى