مرويات قومية

مرويات قومية

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.

 

إعداد: لبيب ناصيف

السجن ـ المدرسة وقفات عز (2)

«أيها الرفقاء القوميون الاجتماعيون،
هذه هي قصة تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي وهذا هو معنى «التأسيس» الذي نحتفل بذكراه اليوم.
ان حزبنا العظيم الذي واجه جبالاً من الصعوبات والمحن، وتمكن من التغلب عليها وبقي صامداً في سيره الظافر لتحقيق غاياته واهدافه ما كان ليتمكن من البقاء والصمود لولا صحة العقيدة المحفورة في نفوسنا بعمق وايمان، ومتانة البناء على القاعدة الصخرية وصهر نفوسنا في بوتقة الذات الاجتماعية، والانطلاق الواعي لاهدافه العليا في الحياة.
فاذا كنا نحتفل بالسادس عشر من تشرين الثاني عيداً لتأسيس حركتنا العظيمة، فان الاعتزاز يملأ قلوبنا ونفوسنا بهذا التأسيس العظيم الذي مكّن النهضة من شق طريقها الصعب لتصبح ملء عين الدنيا وامل الشعب السوري الوحيد في جميع كياناته في حياة تليق بعظمته وطموحه».
***
ولأن سجن القبة كان مدرسة للرفقاء، ولأنهم في ادائهم وممارساتهم في ثكنة الامير بشير، في قفص المحكمة، في سجن القبة – ولاحقاً في سجن القلعة – كانوا يجسدون فضائل الالتزام القومي الاجتماعي فإن معظم العسكريين الذين تعاقبوا على الخدمة العسكرية في الاماكن اعلاه، تحولوا الى اصدقاء للحزب، معجبين بأعضائه. وهذا ما لمسته، والرفقاء الذين تواجدوا في غرفة واحدة في سجن الرمل في الفترة 05/11/1968 – 19 شباط 1969 من تعاطٍ ايجابي لافراد الدرك الذين كانوا خدموا في سجني القبة، و او القلعة،
ما يورده الأمين ابراهيم زين في كتابه « قطاف من حقول العمر» (ص. 127-128) شهادة حيّة يصح ان تُقرأ، فتستقر في العقل والقلب والوجدان، وتجسّد ممارسة في كل تصرّف:
« أحد حراس السجن، عريف في الدرك من آل رعد، من سكان طرابلس، له قصة معنا من المفيد ان نرويها هنا لعظتها البليغة.
كان هذا العريف مولجاً بفتح ابواب الغرف في مواعيد محدّدة، قبل الظهر وبعده «للنزهة»، والنزهة هنا تعني المشي في رواق مسقوف بعرض ثلاثة أمتار بين جدران غرف السجن والحائط الخارجي للبناء، فيما غرف المساجين تتوزع المبنى من جهتي الجنوب والشمال، يفصل بينهما بوابة من الحديد السميك، كانت تقفل في معظم الايام، لمنع مساجين كل جهة من الاختلاط بالجهة الاخرى!
بعد فترة من وصول هذا العريف، لاحظنا في البدء انها صارت مفتوحة ليل نهار، وكأنها غير موجودة، كان البعض منا يحيي العريف رعد بتحية الصباح او المساء، بحسب مواعيد فترات النزهة، لكنه ما كان يرد علينا التحية، لانه لا يحب القوميين، ولا يريد التعاطي معهم، لا سلباً ولا ايجاباً، إلا انه كان يراقبنا باهتمام، فتتغير قناعاته تجاهنا. لم يمضِ على هذه الحالة أكثر من أسبوعين حتى حصل انقلاب جذري في نفسية هذا العريف!..
في أحد الايام، فتح لنا الباب لكي نخرج الى «النزهة»، وعندما شاهد جميع الرفقاء في غرفتنا يجلسون الى مائدة واحدة ويتناولون نفس الطعام، وكان ذلك بعد يوم واحد من أيام المقابلات، حيث أُحضرت للرفقاء من ذويهم بعض الاطعمة، قال لنا: «مساء الخير يا اوادم، الف صحة يا أبطال، انتم الشرفاء، أنتم الاحرار، كل الذين يدّعون الاشتراكية والوطنية يجب ان يأتوا الى هذا السجن للتعلم منكم النظام والرجولة والمحبة والاخلاق، صار لي فترة اسبوعين مشغول بمراقبتكم، كانت الصورة في ذهني مخيفة وبشعة عنكم وعن حزبكم، لكنني بعد المراقبة لكم، انقلبت الصورة تماماً في نفسي، وتأكدت بأن كل ما ألصقه أخصامكم بكم كان مجرد دسّ رخيص وتشويه مغرض، لذلك أعتذر منكم لفهمي السابق الخاطئ لكم. تفضلوا، شرفوا الى نزهتكم اليومية. وبالفعل صار هذا العريف مثال المواطن الشريف المخلص الذي يلبّي كلّ ما كنا نطلبه منه، كما أصبح بعد الجفاء والخصومة السياسية من اصدقاء الحزب، لم يكن ذلك بفعل المحاضرات والدروس العقائدية، بل بفضل السلوك النظامي، والتهذيب الراقي، الذي تعلمناه في الحزب، ومارسناه في حياتنا مع كل الناس»!

الانتقال الى سجن القلعة في بيروت
يورد الأمين إبراهيم الزين في كتابه «قطاف من حقول العمر»: «نجحت مساعي الوسطاء بين الحزب والسلطة اللبنانية، فتّم نقلنا صيف عام 1966 الى سجن القلعة في بيروت، وكان موعد لقائنا برفقائنا الذين فصلتهم السلطة عنا عام 1964، يوم فرح كبير للجميع.
لم تمر عدة ايام على وجودنا في هذا السجن الجديد، الذي شغل الطابق الأول منه، في الباحة الخارجية، العسكريون المحكومون بجرائم عادية، فيما شغل القادة السابقون للحزب غرفة في الطابق الأرضي من تلك الباحة، وتوزع باقي الرفقاء على الغرف الموجودة في الباحة الداخلية مع الطابق الأول منه، ثم شكلت هيئة منفذية لإدارته حزبياً على الشكل التالي: الأمبن جبران جريج منفذاً عاماً، رضا خطار(13) ناموس منفذية، حنا قيصر ناظر مالية، ابراهيم الزين ناظر إذاعة، عادل الطبري(14) ناظر تدريب، وبعد تعيين مسؤولين فرعيين للغرف، بدأ تنظيم حياتنا في السجن الجديد، فعيّن الأمين ادمون كنعان(15) مسؤولاً عن تنظيم الانتاج وتصريفه، عاونه الرفيق حنا قيصر في ضبط الحسابات للرفقاء المنتجين.
بعدها، نظمنا مطبخاً واحداً للسجن، فكنا نتسلم المواد التموينية دون طهي من الدولة، ثم نشتري ما نحتاجه حسب لائحة الوجبات المقررة يومياً، فيما كان تمويل ما نحتاجه من مواد يتم بواسطة اشتراكات شهرية من الرفقاء، كل رفيق حسب استطاعته، فكان الجميع يتناولون طعاماً صحياً شهياً ونظيفاً، ما عدا المرضى الذين كان يتأمن الطعام لهم
بناء لوصفة الطبيب. فيما كانت تفرض ضرائب على تصريف الانتاج بموجب تسعيرة معينة للسلعة، مخفضة للرفقاء، وعادية للآخرين، وكان الرصيد المتجمع شهرياً من هذه الضرائب يؤمن للمحتاجين من الرفقاء المرضى أدويتهم، كما كان يتم شراء بعض الكتب للمطالعة، توضع في مكتبة منفذية السجن، كما كنا نشتري عند الضرورة بعض الحاجات للرفقاء المعوزين. كانت الغرف تُفتح لنا من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة السادسة مساءً، فكنا نتمتع بحرية الحركة طيلة ساعات النهار. نظمنا صفوفاً لمكافحة الأمية، وصفوفاً لتعلم اللغة الفرنسية وأخرى للإنكليزية والمحاسبة، وقد نال العديد من الرفقاء شهادات من معاهد معترف بها(16)، باختصاص المحاسبة، كما طبقنا في هذا السجن شعار الحزب الاقتصادي القائل «كل مواطن يجب أن يكون منتجاً بطريقة ما». لم نعد نشعر بعدها بوطأة السجن وضغطه النفسي على أعصابنا، بل صار النهار بطوله مع جزء من الليل، مليئاً بالنشاط والانتاج.
« لقد أخذت حياتنا في تلك الفترة من الأسر، تعرف الاستقرار والعمل المنتج المنظم، كما بدأ الرفقاء يرسلون الى عائلاتهم مردوداً مادياً جيداً من أتعابهم، وفي هذا الصدد يقول الدكتور عبدالله سعاده، في كتابه («أوراق قومية» ص 191) ما يلي:
مع تحسن الوضع الاقتصادي والنفسي بين الرفقاء، عادت وحدة الروح القومية الاجتماعية تلف الجميع، وأعطوا دليلاً على أن القومية الاجتماعية، ليست شأناً سياسياً، وعسكرياً فحسب، بل هي شأن حضاري إنساني في الأساس، وأن شعبنا، هذا الشعب الصبور، الصامد، لا ينقصه إلا طرد تجار الهيكل واللصوص من هيكله، وقيام قيادة ملتزمة به، مسؤولة عنه، في رؤية شاملة للحياة في كل أبعادها المادية والنفسية»!..
كما أن سعاده يؤكد، في كتاب «نشوء الامم» أن «حياة الفرد تدور ضمن ثلاثة أضلاع: الزاوية الاجتماعية والزاوية النفسية، والزاوية الاقتصادية، وقد أدرك كل الرفقاء نتيجة هذا التنظيم المستوحى من عقيدتنا، أن انفصالهم عن هذا المتحد ولو بانتهاء عقوبة بعضهم هو انفصال عن حياة راقية جديدة، منتجة، مثقفة، فيرى واحدهم خارجها الغربة والوحدة والضياع، وتعطل إنتاجه الذي يؤمن بواستطه حاجاته وحاجات عائلته الضرورية، للعيش المتواضع المستقر.
ولتوضيح هذا الأمر بشكل علمي، أروي هنا هذه الحادثة الغريبة المعبّرة، التي حصلت فعلاً مع أحد الرفقاء:
انتهت فترة سجن الرفيق مصطفى يزبك اواخر العام 1967 على ما أذكر، فراح يودع بالنحيب والدموع، ثم اكتشف فجأة أن عليه دفع مبلغ مادي كان معاقباً به، فطلب من مدير السجن إعادته الى المعتقل، حيث نحن. لأنه يريد أن يبقى معنا سجيناً، لسداد تلك الغرامة المادية، مع أن وضعه المادي ليس سيئاً، في حين كانت خطيبته تتحرق شوقاً للقائه، وهي التي بقيت تنتظر خروجه من السجن خمس سنوات بأيامها ولياليها الطويلة المرهقة!..
ونتيجة لتأثير نهج حياتنا القومية في السجن، طلب حراسنا من الدرك في سجن القلعة من مدير السجن النقيب سعيد ابو كروم، أخذ دروس باللغة الإنكليزية مع رفقائنا، فسمح لهم بذلك، وبعد فترة طلبوا منه السماح لهم بلعب
الكرة الطائرة مع الرفقاء، فسمح لهم ايضاً، ثم طلبوا منه السماح لهم أن يشتركوا معنا في مطبخ السجن، لأن الطعام من مطاعم المدينة يكلفهم مبالغ طائلة شهرياً، عندها رفض النقيب السماح لهم بذلك، خوفاً من انتمائهم الى الحزب، لأنه عندها سيعرض نفسه للعقوبة، وربما للطرد من سلك الدرك!..
«والجدير ذكره هنا، هو أن حراس السجن من الدرك، في حال ارتكب أحد رفقائنا مخالفة او خطأ ما، لم يكونوا يشكونه الى ادارتهم، بل الى هيئة المنفذية، وإذا ما عوقب احد الرفقاء مرة، كان يتوسل لكي تكون العقوبة مخفضة حتى لا يتعطل تصريف إنتاجه، فيتضرر نفسياً ومادياً أيضاً، كما كان الرفقاء يخضعون، بناء على برنامج نظارة التدريب، الى رياضة صباحية، ثم تبدأ بعدها برامج النهار العديدة والمتنوعة.
« في عام 1968، نظمنا سلسلة محاضرات كان يلقيها علينا المسؤولون السابقون، كل حسب اختصاصه، فالدكتور عبدالله سعاده أعطانا سلسلة دروس في الصحة العامة وتشريح جسم الإنسان، كما درسنا على يديه، مع نخبة من رفقاء السجن كتاب «نشوء الأمم» للزعيم، ثم قدمنا بعد انتهاء الدروس امتحاناً خطياً عن أهم النظريات التي تضمنها الكتاب العلمي المذكور!..

هزيمة حزيران والتبرع بالدم
على أثر اندلاع الحرب بين الدول العربية و»اسرائيل» في شهر حزيران عام 1967، أرسلت قيادة الحزب في المعتقل برقية الى السلطات اللبنانية تطلب فيها السماح للسجناء القوميين الاجتماعيين بالإشتراك في قتال العدو، مع التعهد بعودة من يبقى حياً بعد انتهاء القتال الى السجن، لإكمال حكمه. لم تستجب الحكومة لهذا الطلب، لأنها اعتبرته نوعاً من الدعاية الإعلامية للحزب. وبعد مرور عدة ايام على الهزيمة المروّعة، طلبنا من إدارة السجن السماح لنا بالتبرع بالدم لجرحى المعارك مع العدو بواسطة الصليب الأحمر اللبناني، وبالفعل، حضرت عناصر من جمعية الصليب الأحمر، فتسابق الرفقاء للتبرع بكمية من دمهم، علها تسهم بشفاء بعض جرحى تلك الحرب – الفاجعة. ثم تكررت هذه المسألة بعد شهر من حملة التبرع الأولى، وكان هذا جلّ ما استطاع الرفقاء تقديمه، الأمر الذي لفت إدارة السجن الى فرادة روح العطاء التي يتحلى بها القوميون الاجتماعيون، حتى وهم في غياهب الأسر والسجون.
تابعنا بعد ذلك حياتنا في السجن كالعادة، حيث قررنا إقامة مباراة بين الرفقاء في لعبة «الكرة الطائرة» و»الشطرنج» و»طاولة الزهر»، وحين فاز الرفيق الضابط علي الحاج حسن ببطولة «طاولة الزهر» لعبة «المحبوسة»، قررنا إقامة حفلة تكريمية له في الباحة الداخلية لسجن القلعة، نظراً لوضعه الصحي الدقيق. وقد تقرر أن يلقي رئيس المجلس
الأعلى، الأمين محمد البعلبكي، كلمة للمناسبة، كما نظمتُ قصيدة ألقيتها في تلك الحفلة، لاقت استحسان جميع الرفقاء، كان عنوانها «فرحة الحظ» لأن لعبة «طاولة الزهر» تُعرف بأنها لعبة حظ، يحتل فيها «الزهر» دوراً أساسياً في تقرير فوز اللاعب مع خصمه، إذا كان المتباري على معرفة جيدة بفن تحريك حجارة الطاولة. وقد شارك بعض رجال درك السجن وزوارنا من الرهبان التلاميذ في جامعة الكسليك بالمهرجان المذكور، فأعجبوا بنشاطاتنا وتنظيمها وبما ألقي في ذلك الاحتفال من كلمات حملت في مضمونها توجهاً قومياً لافتاً، كما أعد ناظر التدريب، الرفيق عادل الطبري زمراً من الرفقاء الأسرى لتلقّي محاضرات في حرب العصابات، كان يلقيها عليهم الرفيق النقيب شوقي خيرالله، في مواعيد اسبوعية ثابتة، لإنماء ثقافتهم في هذا المجال، الذي يمكنه أن يكون في المستقبل أسلوب القتال الوحيد الناجع، ضد عدو يتفوق على جيوشنا بنوعية السلاح وبالجندي المعقدن بفكر توراتي عنصري، لاغٍ للآخرين. كما عرفت صفحات ملحق جريدة «النهار» كتابات ثورية عقائدية سياسية هامة باسم «سبع بولس حميدان»، «عبدالله فرح» و»قيس الجردي»، للأمناء اسد الأشقر، عبدالله سعاده وانعام رعد، فكان لكتاباتهم تلك صدى واسع في أوساط المثقفين اللبنانيين.

النظام فوق الجميع
في أحد الأيام، أرسل الرفيق شوقي خيرالله رسالة الى منفذ عام منفذية سجن القلعة الأمين جبران جريج، يطلب فيها السماح له بالانتقال من غرفة القيادة الى غرفة مستقلة موجودة قرب مطبخ السجن، لأنه يريد أن يتفرّغ للكتابة في أمور لها علاقة باختصاصه العسكري قد يستفيد منها الحزب مستقبلاً. وبعد دراسة الرسالة في جلسة رسمية لهيئة المنفذية، اتخذ قرار بالموافقة على طلبه. نقل الرفيق شوقي أمتعته من غرفة القيادة الحزبية السابقة، وسكن تلك الغرفة، وقد لاحظنا أنّ الأمين عبدالله سعاده، اتخذ موقفاً من هذا المظهر «الانفصالي» للرفيق خيرالله، فقاطعه ولم يعد يتحدث اليه، وحين عرفنا بهذا الأمر، طرحنا على المنفذ العام استدعاء الأمين سعاده الى جلسة مع هيئة المنفذية من أجل تنبيهه الى خطأ مقاطعة الرفيق خيرالله. تهيّب المنفذ العام هذا الأمر في البداية، وبسبب إصرار جميع أعضاء هيئة المنفذية على حسم هذا الاشكال اللانظامي، استُدعي الدكتور عبدالله الى جلسة مع الهيئة، وبعد مناقشته في خطأ موقفه من الرفيق شوقي، أدى التحية الحزبية، بكلّ انضباط، ثم ذهب على الفور وصالح الرفيق خيرالله. وهكذا، انتهى هذا الإشكال الفردي، بالخضوع المثالي للنظام. ولإظهار أهميته في حياتنا الحزبية الداخلية.

وقفات عز في السجن
ننقل عن كتاب الأمين إنعام رعد «الكلمات الاخيرة» تلك الوقفات الرائعة التي تميّز بها رفقاؤنا عند كل الشدائد، فهم ابدا يواجهون المحن والعنف باعصاب حديدية، وبكل مناقب الجرأة والبطولة والتحدي والتفاني.
في الصفحتين 135 و 136:
«قبل الحديث عن الاحكام التي صدرت، لا بد من التوقف عند وقفات العز التي وقفها المجموع القومي الاجتماعي. القادة يسجلون مذكراتهم وكأن المجموع مجرد مشاهدين، ولكن المجموع كان في الواقع هو الجسم المتحرك، كان هو النهر الهادر، كان هو القوة الحقيقية.
«أتوقف أمام بعض الومضات، وأقول آسفاً كيف لم يُسجَّل تاريخ هذه الدراما الكبرى التي جسّدها المجموع القومي الاجتماعي وهنا أريد ان أحيّي الأمين شوقي خيرالله، أبا علي، على كتابه «بسمة النور»، وفيه أقوال لعدد من الرفقاء المناضلين.. وكان من الواجب تشكيل لجنة تعمل على هذا الأمر، فها نحن بعد أكثر من ثلاثين عاماً نفتقر الى مثل هذا الكتاب المهم(17).
«لا يمكنني أن أنسى يوم استُنفرت ثكنة المير بشير، فلم يخطر على بال القوة العسكرية التي تحيط بالثكنة، التي احتشد فيها مئات القوميين الأسرى، ما حصل في فجر الثامن من تموز من العام 1963. فجأة عند دنو خيوط الفجر الأولى، بدأ القوميون يخلعون لباس النوم ويلبسون بذلاتهم، التي قلما لبسوها، إلا عند المحاكمة، او عند المحاكمة، او عند مواجهة الأهل، او مواجهة المحأمين، وضّبوا فرشهم ووقفوا صفوفاً في غرف سجنهم، سطعت الأنوار المبهرة في الثكنة، مسلّطة على فرق القوميين وتحركت الدبابات والمصفحات، والرشاشات الثقيلة، فقد توقعت قيادة الموقع ان عملية عصيان وفرار على وشك ان تنفّذ، لكن الصوت دوى: «تحية للزعيم خذ»، ارتفعت مئات الأيدي باليمين، وسادت رهبة اجتاحت نفوس السجانين، فباتوا هم سجناء هذا الموقف الأسطوري الساحر. أحد الضباط أخذته الدهشة وعقد لسانه، ثم انفجر يهذي: «مجانين، مجانين». لقد تقزّمت نفسه أمام الحزب، وهو يرى هذا الصف الطويل من المحكومين بالإعدام والسنوات الطويلة، ينهض ليؤدّي التحية لزعيمه الشهيد في ذكرى استشهاده.
«في ذلك اليوم، برز جسم الأسرى القوميين الاجتماعيين، كما أبرزت الإضرابات الجماعية، الصف القومي الاجتماعي صفاً متراصاً نظامياً، فتلاشت الضربات التي انزلت به على صخرة صموده، وتحوّل الجسم الى ثكنة ومدرسة وتنظيم، ضمن السجن وخلال السنوات التالية، فكان مصدر استنهاض للعمل الحزبي في كل مكان.
«لا أزال أذكر وباعتزاز، يوم عاد جبران الاطرش من المحكمة، وكان تقرر مقاطعة الحكم والمحاكمة في طورها الأخير، بعد ان تبيّن عزم المحكمة، باستثناء رئيسها إميل ابو خير، إصدار الحكم على أساس ان الجريمة جريمة عادية وليست سياسية، وقد تحدى جبران ببسالة وجرأة المحكمة وأحكامها. جلسنا في ذلك اليوم وكأن العرس قد خيّم على الاسر، وأطلق ديب كردية مواويله يتحدى فيها الموت في سبيل القضية، وتردّدت اصداء ذلك العرس في كل الجهات، حتى ان الضباط جاؤوا وهم مبهورون. ألم تصدر بحق هؤلاء احكام الإعدام والمؤبد، فكيف يهزجون وكيف يمرحون وكيف يتحدون؟ ما عرفوا ان في هؤلاء «قوة لو فعلت لتغيّر وجه التاريخ».
– وفي الصفحتين 53 و 54:
«وصول خبر استشهاد الزعيم
في الثامن من تموز 1949، شعرنا بجلبة في السجن، ولم نعرف في مهجعنا ما الخبر، ولكن في التاسع من تموز ارسل إليّ الأمين كامل ابو كامل، وكان في المهجع الرابع، جريدة وصلته مع الزوّادة، وفيها صورة الزعيم في المحكمة العسكرية، وهو يسأل: هل هذه الصورة مزيّفة أم حقيقية؟
« تمعّنت في الصورة، فاعتبرت أنها حقيقية، واعتبرت أنه لا يمكن تزييف مثل هذه الصورة، وتزييفها يسيء الى الحكومة أكثر مما يفيدها، فيما لو لم يكن الحدث حقيقياً وصحيحاً. بهذا أجبتُ الأمين كامل ابو كامل.
« وكان لا بد من إعلان الخبر على القوميين الاجتماعيين. وكلّف كل مسؤول ان يعلن الخبر في قاووشه. وكان المسؤول الاعلى في مهجعنا وكيل عميد التدريب الرفيق سليم خوري(18)، ولكن الرفيق خوري اغرورقت عيناه بالدموع فلم يستطع إعلان الخبر، فتوليتُ إعلانه، وشعرت كأن عبء المسؤولية قد ألقي على كل قومي اجتماعي، فقلت: اليوم قد أعطانا سعاده قدوة كبرى، علينا ان نكون في مستواها، لقد علّمنا ان المبادئ تساوي كل وجودنا، وقد أعطى حياته في سبيل هذه القضية، فلنتحمل مسؤوليتها التاريخية.
«القوميون، بعضهم صمت وصعق، وبعضهم أجهش بالبكاء، وبعضهم هتف. وما هي إلّا ساعات، حتى كان السجن يضم بين قضبانه أسود النهضة، تزأر زئير الأسود الجريحة.
« جاء المقدم محمد جواد دبوق ليزفّ الخبر وليتشفّى، فانتهره الرفيق محمد جبلاوي(19) وهجم عليه يريد ان يضربه، وكان ان حصل محمد الجبلاوي على «فلق». ولكن ذلك كان وسام الشجاعة القومية الاجتماعية، وكان إيذاناً بغضبة كبرى عمّت الحزب السوري القومي الاجتماعي كله.
«في ذكرى الاسبوع تولينا الخطابة، وتنظيم شبه تظاهرة بين مختلف القواويش. وكان الدكتور عبدالله سعاده، وكنت أنا ايضاً، نخطب في تلك اللحظات، فصدر الأمر بنقلنا من قاووش الى آخر، وإبعادنا لأننا كنا، حسب إدارة السجن، نقوم بالتخريب والشغب. وهتف القوميون الاجتماعيون في لحظة واحدة لسعاده وهتفوا ضد الحكومة الطاغية. هكذا خرجت صيحة القوميين الاجتماعيين من السجن مدوية غاضبة.

هوامش:
13 ـ رضا خطار: من باتر (الشوف) تولى مسؤوليات عديدة، منها منفذ عام وعميد للداخلية. غادر الى الإمارات العربية المتحدة وفيها وافته المنية. عُرف بالتزامه النضالي وإخلاصه الحزبي وتفانيه.
14 ـ عادل الطبري: من الجنوب السوري. عرف المسؤوليات الحزبية في كلّ من الشام ولبنان. بعد خروجه من الأسر تابع نشاطه الحزبي وتوليه للمسؤوليات في كلّ من دمشق وبيروت. مُنح رتبة الأمانة وانتخب عضواً في هيئة منح الرتبة.
15 ـ ادمون كنعان: من كفرشيما. ومن مؤسسي العمل الحزبي فيها. مُنح رتبة الأمانة. تولى مسؤوليات عديدة أبرزها عمدة المالية. غادر الى أفريقيا مؤسساً أعمالاً ناجحة في نيجيريا. ثم انتقل الى باريس حيث يقيم حالياً.
16 ـ كنت رئيساً لمكتب الطلبة عندما تابعت موضوع حصول الرفقاء على شهادات معترف بها. والفضل في ذلك يعود الى صاحب «معهد لبنان» الأستاذ سامي الصيقلي. مراجعة النبذة بعنوان «الرفيقان سمير صيقلي ووليد عبد الخالق» على الموقع المذكور آنفاً.
17 ـ ما زلنا نفتقر، لولا ما كان أورده الأمناء عبدالله سعاده، فؤاد عوض، شوقي خيرالله، منير خوري، ابراهيم زين، اما الأسباب فعديدة وقد أكتب عنها في وقت لاحق، وأتحدث عن واقع التعاطي مع موضوع تاريخ الحزب منذ بدء اهتمامي به.
18 ـ سليم خوري: من بلدة «عيناب». من اوائل الرفقاء فيها. تولى في الاربعينات مسؤولية وكيل عميد الدفاع، من أشقائه الرفيق المناضل ألفرد خوري.
19 ـ محمد جبلاوي: من المناضلين الذين عرفوا الحزب منذ أوائل الثلاثينات، واستمر مناضلاً في كلّ الظروف السهلة والصعبة. توفي بتاريخ 11 كانون الثاني 2019.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى