نقاط على الحروف

ماذا يعني الاحتجاج على وحدة الساحات؟

ناصر قنديل

– ثلاثة اعتبارات لا يملك أحدٌ تجاهلها في مخاطبة الذين يجعلون لخطابهم عنواناً في هذه المرحلة هو الاحتجاج على معادلة وحدة الساحات. هذا مع حق التساؤل حول سر تزامن توقيت موجة التصريحات بهذا الاتجاه، مع حملة مبرمجة تتحدّث عن حرب كبرى مقبلة وتبني عليها مخاطر ومخاوف، تنسجم مع التهويل بخطر حرب إسرائيلية، يطلقه الموفدون الغربيون ويروّج له قادة الكيان، خصوصاً أن الحديث عن الحرب يأتي لتعويض العجز عن خوضها، أملاً بمحاكاة واقع سياسي لبناني داخلي يمكن استنهاضه في لبنان بوجه المقاومة بهدف إرباك ساحتها وإشغالها، لأن القاصي والداني يعلمان أن ما يستطيعه الإسرائيلي هو رفع منسوب الاستهداف ومداه على أطراف تجمّعات سكنية دون ارتكاب ما يرتب رداً يصيب البنية السكانية في الكيان بأذى كبير. والهدف هو خلق توازن تهجير على طرفي الحدود، لتمهيد الأجواء التفاوضيّة بعد نهاية حرب غزة، طلباً لاتفاق يضمن العودة، وتكون العودة على الضفتين مصدر ضغط متوازن، طالما أن ما يزيل الضغط التهجيري في شمال فلسطين، هو حرب برية لا يملك الإسرائيلي جيشاً قادراً على خوضها، أو قصفاً تدميرياً للعمق اللبناني لا يملك الإسرائيلي قدرة على تحمل ما يستجلبه من ردّ مماثل على عمق الكيان.
– الاعتبار الأول في التفكير والنقاش، إذا وضعنا جانباً المقدمة، هو أن بعض الذين يسجلون اعتراضهم على وحدة الساحات، إنما يطلبون صرف منجزات المقاومة في جبهة الحدود، بما استدرج العروض السياسية والإقليمية التي يحملها الموفدون، فيتحدّثون عن فرصة لاسترداد الأراضي اللبنانية المحتلة، وبعضهم يقول بفرصة لفتح ملف عودة النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، لا يقولون شيئاً إلا أنهم يعترفون ضمناً بصحة معادلة وحدة الساحات، لأن منجزات المقاومة جاءت تحت هذا العنوان، أي فتح جبهة الحدود اللبنانية لنصرة غزة، لكنهم يطلبون من المقاومة أن تخون ذاتها، فتنسحب من وحدة الساحات لمجرد أنّها تلقت عروضاً مربحة. وإذا سارت المقاومة بهذه النظرية اللاأخلاقية فلماذا يطلبون منها ألا تقبل العروض التي تتصل بتعزيز مكانتها في المعادلة اللبنانية الداخلية سياسياً وطائفياً، وهو ما ترفضه المقاومة للاعتبارات الأخلاقيّة. وما دامت الدعوة هي لترك الأخلاق جانباً بداعي المصلحة، فلماذا يتم تجاهل منطق مكيافيلي المصلحي، حيث الغاية تبرر الوسيلة، حيث عروض المصلحة تطال مساحة أوسع من الحديث عن مصلحة لبنانية، سواء بالنسبة للموفدين أو من وجهة النظرة العامة لعقل المصلحة الميكافيلي.
– إذا وضعنا جانباً الدعوة للاستثمار الانتهازي لعائدات وحدة الساحات عبر التخلي عنها لقطف منجزاتها الخاصة، بداعي المصلحة، وذهبنا للمخلصين مبدئياً لرفض وحدة الساحات من أصلها، والذين يتماهون مع الطلبات الأميركيّة بتجميد الجبهة اللبنانيّة، لجهة ترجمة التهديدات الأميركيّة منذ بداية حرب غزة بعدم التساهل مع أي محاولة لفتح جبهات أخرى، أو يتماهون مع التهديدات الإسرائيلية بشن حرب كبرى على لبنان كعقاب على فتح جبهته لمساندة غزة، فإن الاعتبار الثاني هنا هو التساؤل البديهيّ عن معنى التهديد الأميركيّ ما لم يكن ترجمة لوحدة ساحات من نوع ثانٍ، جوهره الالتزام الأميركيّ بمساندة “إسرائيل”، ومثله عما إذا كان التهديد الإسرائيلي تعبيراً عن وحدة ساحات من نوع ثالث جوهره أن “إسرائيل” المنشغلة بحرب غزة، غير قادرة على خوض حرب على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، ولذلك فهي تريد تأجيل جبهة لبنان لحين الانتهاء من جبهة غزة، فيقرّر الإسرائيلي التوقيت المناسب لترجمة مفهومه عن وحدة الساحات بالتجزئة الشكلية والجمع الجوهري. وهكذا تصير القضية عند هؤلاء المعترضين في كل الحالات التزاماً بوحدة ساحات، ولكن اختيار وحدة الساحات بمفهوم أميركي أم إسرائيلي، أو بالمفهوم اللبناني الذي تمثله المقاومة، باعتبار أن ليس هناك مشروع لا يتضمّن شكلاً من أشكال وحدة الساحات.
– الاعتبار الثالث الذي يفرض حضوره في النقاش هو تحديد المفهوم اللبناني الذي تترجمه المقاومة لوحدة الساحات، طالما أن لا مفرّ من صيغة ما لوحدة الساحات. وطالما أن المفهوم الأميركي والمفهوم الإسرائيلي يتقاطعان عند نقطتي الجمع بين الأهداف بضرب المقاومة في فلسطين ولبنان والمنطقة من جهة، وتوزيع الاستهداف على مراحل تجعل المهمة أقلّ كلفة وأكثر سهولة، والمفهوم اللبناني الذي تترجمه المقاومة يقوم على فتح الجبهة وتصعيد حضورها بصورة تحقق ثلاثة أهداف، الأول عرقلة مسار الحرب على غزة وصولاً لشلّ القدرة على التفرّغ لها، والذهاب إلى إرباك كل ما له صلة بالجبهة الداخلية، خصوصاً في ملف التهجير، وإنهاك الجيش، وضرب نقاطه المتقدمة التي تشكل قواعد ارتكاز أي حرب مقبلة، والثاني رفع منسوب الردع لجهة تحميل الجبهة رسائل نارية واستخبارية وعروض نار وقوة تدخل في حسابات كيان الاحتلال لحجم المصاعب والمخاطر التي سوف يتسبّب بها التفكير بالحرب على لبنان، والثالث هو السعي لإدارة هادئة للجبهة تضبط إيقاعها تحت سقف عدم الانزلاق الى الحرب الكبرى انطلاقاً من فهم المصلحة الوطنية اللبنانية بالسعي لتفادي هذا الخطر، وتفتح الباب بعد نهاية الحرب على غزة لتفاوض يعيد تثبيت الهدوء يكون ثمن التزامات المقاومة عبره تحصيلاً لحقوق لبنانية وطنية.
– واقعياً، نجحت المقاومة في تحقيق الأهداف التي رسمتها للمشروع اللبناني لوحدة الساحات، وعطلت مفاعيل المفهومين الأميركي والإسرائيلي لوحدة الساحات، وقد بلغت مرحلة متقدّمة من النجاح الى الحدّ الذي بدأ الموفدون يحملون العروض لمقايضة استمرارها بتفعيل الجبهة بمكاسب سياسيّة بعضها لبناني يتصل بالحقوق وبعضها إغراءات لدور سياسي داخلي رئاسي وطائفي على حساب سائر الأطراف والمكوّنات اللبنانية، والمقاومة برفضها كل هذه العروض من منطلقات وطنية وأخلاقية وتمسكها بربط وقف اشتعال الجبهة بوقف الحرب في غزة، نجحت بفرض هذه النتيجة على كل تفاوض. وهذا النجاح هو السبب في تحرّك السفراء والمخابرات الغربية على شخصيات وقوى ومؤسسات إعلامية لتنظيم حملة تستفيق على ضرورة إعادة النظر بوحدة الساحات، لكنهم تأخّروا كثيراً حتى أثار توقيتهم الشبهات، لأن معادلة وحدة الساحات صارت حاملاً في الشهر الخامس، بحيث لا فرصة للولادة ولا للإجهاض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى