أولى

من وعد بلفور إلى وعد غالاوي

بدأت محنة الشعب الفلسطيني مع قرار بريطاني كان وعد وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور إلى المتموّل اليهودي ليونيل روتشيلد يتعهّد بموجبه باسم حكومة المملكة البريطانية أن تقدّم بريطانيا المساندة لإنشاء كيان يهودي في فلسطين. وبريطانيا كانت دولة الانتداب على فلسطين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقدّمت كل المساندة اللازمة لتمكين موجات الهجرة التي نظّمتها الحركة الصهيونية بهدف جلب المستوطنين إلى فلسطين، ومكّنت سلطات الانتداب العصابات الصهيونيّة من التسليح والتنظيم وفتحت لهم الطرق لترتيب غزوات على المدن والبلدات الفلسطينيّة وحرقها وتهجيرها وسلب ممتلكاتها، وفق معادلة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
في مواجهة هذا الدور البريطانيّ القذر المستمرّ والمتمادي في دعم كيان الاحتلال، وصولاً للغارات البريطانية على اليمن عقاباً له على فرض الحصار على التجارة الى كيان الاحتلال، نهضت شخصيات بريطانية حرة تبنّت النضال الوطني للفلسطينيين ودافعت عن حقهم بالمقاومة، وكان زعيم حزب العمال البريطاني السابق جيرمي كوربين أحد الرعاة الأساسيين لمنظمة حملة التضامن مع فلسطين «بي إس سي»، وهو أحد الأعضاء الفاعلين في لجنة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على «إسرائيل» «بي دي إس»، إذ ركّز نشاطه ما يزيد على 20 عاماً على الترويج لهذه المنظمات وأهدافها المنصبّة على إعادة حقوق الشعب الفلسطيني، كما عُرف بحضوره المكثّف في المظاهرات والمسيرات الداعية إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعرف عنه رفضه لوعد بلفور الذي طالما اعتبره أحد الوعود المخادعة والكاذبة المعبّرة عن ازدواجية السياسة البريطانية تجاه الملف الفلسطيني.
كانت الظاهرة التي يمثلها النائب في مجلس العموم جورج غالاوي الأشد وضوحاً في تجاوزها كل الحدود في دعم القضية الفلسطينية وفهمها، وإدراك مكانتها في مستقبل المنطقة والنظام العالمي ومفهوم العدالة في العالم، ولم يكن خافياً أن غالاوي العمالي السابق فقد الكثير من مواقعه وصفاته بسبب هذا الموقف المبدئي مع فلسطين وشعبها ومقاومتها، مجسّداً نموذج المناضل العالمي السلمي، في استعادة لصورة تشي غيفارا، لكن بلا بندقية.
أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الغربية سنة 2006 عندما شارك في البرنامج التلفزيوني «الأخ الأكبر»، وتبرّع بكامل قيمة الجائزة إلى منظمة «انتريال» الخيرية التي تقدم الدعم للشعب الفلسطيني. وفي ثمانينيّات القرن الماضي أيّد قرار المجلس البلدي لمدينة داندي برفع العلم الفلسطيني فوق المبنى البلديّ، لتكون المرة الأولى التي يرفع فيها العلم الفلسطيني على مؤسسة حكومية في الغرب. ثم في عام 1989، أعلن إطلاق توأمة بين مدينة غلاسكو (كبرى مدن اسكتلندا) وقرية بيت لحم الفلسطينية. وشارك غالاوي في عديد من قوافل الإغاثة لتخفيف آثار الحصار المفروض على أكثر من 1.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة.
فاز جورج غالاوي أمس، بنحو 40% من الأصوات في الانتخابات الفرعية للبرلمان البريطاني عن مدينة روتشديل، التي هيمنت عليها الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزة، وقد أطاح غالاوي كعضو برلمانيّ سابق عن حزب العمال بحزبه السابق في 3 انتخابات، وسيعود إلى البرلمان للمرة الرابعة خلال 37 عاماً. وكان حزب العمال، الذي يدافع عن أغلبية تقترب من 10 آلاف صوت ويحتل مرتبة عالية في استطلاعات الرأي، يتوقّع منافسة مباشرة لاستبدال النائب الحالي، توني لويد، الذي توفي في 17 يناير/كانون الثاني الماضي بسبب سرطان الدم، لكن الحملة دخلت في حالة من الفوضى عندما تبين أن مرشحها أزهر علي كرّر نظريات المؤامرة المناهضة لـ»إسرائيل» بشأن عملية طوفان الأقصى واضطر حزب العمال في النهاية إلى التبرؤ من علي والتخلّي عن حملته بعد أسبوع واحد فقط من المنافسة، وفات الأوان لاختيار مرشح آخر.
قام غالاوي بجولة في روتشديل بمكبر الصوت، واصفاً الانتخابات الفرعية بأنها «استفتاء على غزة»، وفرصة لتنظيم احتجاج ضد حزب العمال، ملبياً نداء ناخبين في دائرة ليست دائرته التقليدية ليكون ممثلهم ويخوض معركته تحت عنوان تلبية نداء غزة، وكانت النتيجة فوزاً ساحقاً أغاظ رئيس الحكومة ريشي سوناك وكل مناصري الاحتلال وكيانه العنصري، وتركت آثاراً مدوّية في الجمعيات المساندة لفلسطين.
وعد غالاوي بفلسطين حرة من البحر إلى النهر، بدأ يبصر النور، بينما وعد بلفور يحتضر، وكأنما النهاية ستكون بريطانيّة كما كانت البداية، في تصحيح لخطأ تاريخيّ لا يغتفر.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى