أولى

كيف نواجه تحديات اليوم التالي لانتهاء المفاوضات؟

‭}‬ د. عصام نعمان*

حربُ الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني مستمرة ولن تتوقف. حتى لو توقّفت مؤقتاً، فإنها سرعان ما تعاود “إسرائيل” استئنافها بشكلٍ او بآخر. فهي في مفهومها موجب توراتي كما ضرورة وجودية للبقاء بحسب عقيدة الصهاينة المعاصرين.
خلافاً لحرب الإبادة، فإن المفاوضات في أداء “إسرائيل” السياسي ليست وسيلة متاحة دائماً بل هي غالباً حاجة طارئة، مدتها محكومة بضرورات تكتيكية او استراتيجية. هي اليوم أمر غير ملحّ إنما تعتزم اعتمادها في ظلّ الحرب الناشطة للضغط على الفلسطينيين بغية تحسين الأوراق التفاوضية للجانب الصهيوني.
الولايات المتحدة، حليفة “إسرائيل” الدائمة، لها رأي آخر قوامه دافعان: الاول انتخابي داخلي، الثاني استراتيجي إقليمي. فالرئيس جو بايدن بحاجة إلى وقف الحرب، ولو بصورة مؤقتة، بغية استمرار المفاوضات بين الطرفين المتحاربين لتحسين وسائل نقل المساعدات الإنسانية للفلسطينيين المشردين والجوعى والمرضى. هو يعتقد أن من شأن ذلك تطويق حملة الاحتجاج الشعبية المتصاعدة ضده في الداخل الأميركي كما في الخارج ومنحه فرصةً أفضل في جولة الانتخابات الرئاسية المحتدمة. كما يعتقد أيضاً أن وقفاً مؤقتاً للحرب ومتابعةً حثيثة للمفاوضات يتيحان لـِ “إسرائيل” المتعَبَة التقاط الأنفاس وإعادة تنظيم قواتها المنهَكَة في المواجهة الضارية مع المقاومة الفلسطينية.
ماذا عن الفلسطينيين والعرب؟
الفلسطينيون يشعرون بأنهم في وضع عسكري وسياسي أفضل من الإسرائيليين، ولا مصلحة لهم في إعطائها فرصةً لالتقاط الأنفاس. ثم لماذا يُطلب منهم متابعة مفاوضاتٍ متطاولة في حين لا يطرح الإسرائيليون خلالها إلاّ شروطاً ومطالب تسيء الى وضع المقاومة المتقدّم كما تسيء الى مشروعية قضية فلسطين في الحاضر والمستقبل؟
كلُ ما تقدّم بيانه يشكّل تحدّيات ومخاطر لقيادة المقاومة الفلسطينية كما للمفكرين القياديين الفلسطينيين والعرب ويستفزهم تالياً الى مباشرة التفكير والإعداد الجدّيين لكيفية مواجهة “إسرائيل” وحلفائها في اليوم التالي لانتهاء المفاوضات واستئناف حرب الإبادة التي لن تتوقف.
أرى، وربما غيري كثر، أنه في منظور الإعداد لمواجهة “إسرائيل” في الحاضر والمستقبل ثمة ضرورة وازنة للانطلاق من حقائق خمس ساطعة، والتنبّه لعدم الانزلاق الى خمسة فِخاخ بالغة الخطورة:
أولى الحقائق الخمس أن “إسرائيل” ملتزمة دائماً وأبداً شنّ الحروب على الفلسطينيين والعرب، لأنها “تموت إذا توقفت عن التوسع” كما اوصاها مؤسسها ديفيد بن غوريون.
ثانيةُ الحقائق أن الولايات المتحدة الأميركية حليف دائم وفاعل للكيان الصهيوني ولا أمل في أن تكفّ يوماً عن دعمها بكل الوسائل المتاحة في وجه الفلسطينيين خصوصاً والعرب المشاركين في مقاومة “إسرائيل” عموماً.
ثالثةُ الحقائق، مقاومةُ الفلسطينيين وحدهم لا تكفي لردع “إسرائيل” ولا لتحرير فلسطين من النهر الى البحر الأمر الذي يستوجب إعداد وممارسة مساندة ومشاركة عربيتين فاعلتين في الحرب ضدها أو في المفاوضات غير المباشرة معها، إذا تطلّب الأمر ذلك.
رابعةُ الحقائق أن لا مشاركة عربية رسمية (اي حكومية) في مقاومة “إسرائيل” إلاّ من لبنان وسورية واليمن والجزائر وربما العراق. أما سائر الدول العربية فالأرجح ان تكتفي بالمساندة بدرجات متفاوتة من الالتزام والتنفيذ. ذلك كله يستوجب إعداد وإطلاق مشاركة شعبية عربية من خلال تنظيمات مقاوِمة، تشاطر المقاومة الفلسطينية كفاحها السياسي والمسلّح الموصولين ضد الكيان الصهيوني وحلفائه عملاً باستراتيجية وحدة الساحات ووحدة الجبهات. والأرجح أن تبقى إيران ملتزمةً مبدأ ومسلك دعم المقاومة العربية سياسياً واقتصادياً ولوجستياً وعسكرياً ضد ما تسمّيه النظام الصهيوني.
خامسةُ الحقائق محاذرة الوقوع في فخاخ مفاوضات ملغومة أدّت في الماضي غير البعيد الى الوقوع في مهاوي إتفاقات أوسلو للعام 1993 وما رافقها ونجم عنها من تقسيمات لأرض فلسطين واستباحتها وقضمها بمئات المستعمرات (المستوطنات) الصهيونية ومصادرة الأملاك العربية وتهجير السكان الأصليين.
الى ذلك، يقتضي أن يتوافق المقاومون والنهضويون الفلسطينيون والعرب على خمسة مبادئ وقواعد أساسية خلال النضال لتحرير فلسطين وفي اليوم التالي لتحريرها على النحو الآتي:
اولاً: في خلال أيّ مفاوضات تجري برعاية الأمم المتحدة او بوساطة مباشرة بين دول عربية او إسلامية يرتضيها الفلسطينيون وحلفاؤهم ممثلةً لهم من جهة والكيان الصهيوني او دولٍ يرتضيها لتمثيله من جهة أخرى، يقتضي عدمُ الموافقة بشكل مطلق على وجود قوات إسرائيلية في قطاع غزة او الضفة الغربية لفلسطين المحتلة، او إقامة مناطق عازلة داخل كِليهما بإدارة قوات غير أممية لمدة غير محدّدة سلفاً او إعطاء أي حق او ترخيص او تدبير يجيز للصهاينة دخول المسجد الأقصى في القدس الشريف وممارسة أي شعائر تلمودية فيه.
ثانياً: ضرورةُ رفع الحصار المضروب من الكيان الصهيوني على قطاع غزة وأي منطقة فلسطينية أخرى كان جرى فرضه في الفترة السابقة للحرب الأخيرة المندلعة ضد الفلسطينيين منذ 7 تشرين الاول/ اكتوبر 2023 وذلك في حال التوصل الى أي تسوية نتيجةَ مفاوضاتٍ حاليّة او مقبلة.
ثالثاً: إخلاء اليهود الصهاينة من حَمَلَة جنسيات مزدوجة بعد تحرير فلسطين (مهما طال الزمن) الى الدول والأماكن التي جاؤا منها، والتسامح في شأن بقاء اليهود المتحدرين من أصول كانت موجودة في فلسطين إبّان الحكم العثماني، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
رابعاً: بناءُ دولةٍ عربية ديمقراطية مستقلة في فلسطين بعد تحريرها تقوم على أساس مساواة المواطنين امام القانون.
خامساً: انخراط المقاومة الفلسطينية، أفراداً وجماعات وتنظيمات، في الحركة النهضوية العربية المناضلة من أجل بناء دولة عربية اتحادية تقوم على أساس الديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية ونصرة الشعوب المناضلة من أجل الحرية وإقامة انظمة سياسية تلتزم تطبيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ودعم الجهود الشعبية والحكومية الرامية الى بناء نظام عالمي جديد يقوم على اساس الاحترام المتبادل لسيادة الشعوب على مواردها الطبيعية وتنميتها ومناهضة العنصرية والتبعية السياسية والاقتصادية، والتعاون الأممي في مكافحة الفقر والظلم الاجتماعي، وتنظيم الإفادة من الذكاء الاصطناعي، ومواجهة تغيّرات المناخ، وريادة الفضاء الخارجي لكوكب الأرض.
قد تبدو هذه الرؤية ببعض محاورها بعيدة المنال، لكن نضالاً طويل النَفَس في سبيلها كفيل بجعلها في متناول الشعوب الناهضة إلى حياة كريمة ومنتجة.

*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى