مقالات وآراء

الحرب السادسة لـ غزة صمود استثنائي وانتصارات مبهرة

‭‬ محمود الهاشمي

بصدور قرار مجلس الأمن الدولي الداعي الى «وقف فوري لإطلاق النار» في غزة، في يوم الاثنين الموافق (25-3-2024)، تكون معركة طوفان الأقصى قد انتهت في بعدها العسكري، بعد مرور خمسة أشهر على بدئها وما رافقها من تضحيات جسام طالت المدنيين من أهالي غزة، وما خلفت من دمار هائل في المباني والمؤسسات والمستشفيات والمساكن، وتمدّدت تداعياتها لتشمل العالم بأجمعه،
لتبدأ المعركة في بعدها السياسي والإنساني، وهذا الأمر تفرضه نتائج المعركة العسكرية التي فشلت فيها «إسرائيل» سواء بالتصدي للهجوم الذي قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر أو بهجوم قوات الجيش الصهيوني على غزة، وهذا ما أكده الإسرائيليون أنفسهم وهم يعترفون تباعاً بأنّ هذه الحرب فشلت في تحقيق أهدافها، وأنّ القضاء التامّ على حركة حماس بالقوة لا يبدو أمراً في متناول اليد، وقبل أيام قليلة كتب الجنرال الاحتياط في الجيش الإسرائيلي إسحاق باريك مقالاً نشرته صحيفة «معاريف» العبرية، قال فيه إنّ «القيادة الإسرائيلية التي فقدت اتجاهها تخشى من إنهاء الحرب، خشية أن يضرّ ذلك بحكم نتنياهو كرئيس للوزراء، والنتيجة لا نصر كاملاً على حماس، ولا إطلاق سراح لجميع المختطفين». ويرى باريك «أنّ العملية العسكرية في رفح التي يُصرّ نتنياهو على تنفيذها ستكون «مقامرة خطيرة جداً وينبغي عدم الإقدام عليها، وقد تكون المسمار الأخير في نعش البقاء الإسرائيلي» وهذا ما فهمته الولايات المتحدة وخلصت اليه دوائر التحليل في واشنطن، ولذلك تغيّر الموقف الأميركي نحو التركيز على المفاوضات، وعدم استخدام (الفيتو) بوجه قرار مجلس الأمن الأخير والداعي لـ وقف إطلاق نار فوري.
قبل ان تبدأ «معركة طوفان الأقصى» في السابع من شهر تشرين عام 2023 يكون العالم قد شهد الأحداث الآتية:
1 ـ صعود اليسار في قارة أميركا اللاتينية وهزيمة اليمين الذي رعته الولايات المتحدة على مدى 70 عاماً.
2 ـ تمدّد النفوذ الصيني الاقتصادي في أميركا اللاتينة لدرجة انّ الميزان التجاري بين الصين والقارة وصل الى 330 مليار دولار عام 2019 بعد ان كان فقط 12 مليار عام 2000.
3 ـ الانقسام في المجتمع الأميركي بين أهل الشمال وأهل الجنوب وصل أوْجه كما يقول الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما «أميركا منقسمة بشدة، وذلك ليس علامة جيدة للديمقراطية»» وقال أيضاً إنّ حدة الانقسام في الولايات المتحدة حالياً أكثر ارتفاعاً، والمعلوم ان الحرب الاهلية الأميركية عام 1861 كانت بين أهل الشمال الأميركي وأهل الجنوب وبلغ عدد ضحاياها أكثر من 800 ألف قتيل. وهذا مايؤكده الانقسام المجتمعي (الحادّ) بين أهل الجنوب (الملوّنين) وأهل الشمال (البيض) ومعه انقسام سياسي فالحزب الديمقراطي بات ممثلاً للملوّنين والجمهوري بات ممثلاً للبيض.
4 ـ صعود اليمنين المتطرف في أوروبا والنزعة ضدّ المهاجرين.
5 ـ صعود الصين كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وبداية تشكيل قطبية جديدة تضم دولاً عديدة مثل روسيا وإيران والهند وباكستان والبرازيل وظهور منظمة «بريكس» كقوة اقتصادية جديدة بقيادة الصين.
6 ـ الحرب الأوكرانية الروسية وتداعياتها الدولية.
7 ـ تصاعد الأزمة بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايلاند».
8 ـ بداية التمرد الياباني وظهور شخصيات قومية مثل رئيس الوزراء السابق شينزو آبي الذي خطط الأميركيون لاغتياله.
9 ـ تمرد دول أفريقية عديدة بالضدّ من الوجود الفرنسي ونفوذ الصين وروسيا الى القارة.
10 ـ تراجع الاعتماد على الدولار في التعاملات المالية عالمياً.
11 ـ تمدّد «طريق الحرير «الى دول عديدة.
12 ـ انحسار النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الاوسط وانسحابات عسكرية من قواعد عديدة كما قال الرئيس السابق ترامب «لم يعد الشرق الأوسط من أولوياتنا».
ـ تصاعد التذمر من (التطبيع) في دول مثل الأردن ومصر وحتى في الدول الأخرى التي ساقتها أميركا الى التطبيع مثل البحرين والإمارات والضغط على السعودية للحاق بهم، وهنا نورد ما كتبه الإعلامي الكويتي أحمد الجار الله من قبل في جريدة «السياسة» الكويتية قبل أسبوع من انطلاق عملية طوفان الأقصى، مناشداً ولي العهد السعودي بالقول «سمو الأمير محمد بن سلمان اعقلها وتوكل» بمعنى «اذهب للتطبيع مع إسرائيل دون تردّد»، واورد في بداية المقال «انّ القضية الفلسطينية لم تعد ملفاً عربياً».
14 ـ صعود شخصية عمران خان في باكستان كرئيس مناهض لأميركا وداعم للمشروع الصيني الروسي…
15 ـ ظهور الهند كقوة اقتصادية وعسكرية في الشرق ومحاولة زعيمها اليميني ناريندرا مودي الاستفادة من الخلاف الأميركي الصيني وركوب الجواديْن معاً.
16 ـ ظهور إيران كقوة اقتصادية وعسكرية واجتماعية استطاعت ان تقف بوجه التفرّد الأميركي على مدى 45 عاماً وانّ تبني مشروع محور المقاومة في المنطقة ومحاصرة «إسرائيل» من جميع الجهات ومدّ فصائل المقاومة الاسلامية بالمال والسلاح والإعلام والتأييد ليمثل عمقاً استراتيجياً لها في المنطقة.
17 ـ تطور أداء فصائل المقاومة في العراق ولبنان وسورية واليمن وفلسطين المحتلة، والدخول مع «إسرائيل» في العديد من المعارك وتحقيق انتصارات و»معادلة الردع» معها.
18 ـ دخول غزة في خمس معارك مع «إسرائيل» منذ ان انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005 واعلان «إسرائيل» عام 2007 بأن غزة كيان معاد وفرضت عليها حصاراً شاملاً.
وأهمّ الحروب التي شنتها «إسرائيل» على قطاع غزة منذ حصاره:
1 ـ (2008 ـ 2009) معركة الفرقان استمرّ العدوان 23 يوماً سقط خلاله 1430 شهيداً فلسطينياً.
2 ـ (2012) معركة حجارة السجيل استمرت لمدة ثمانية أيام وتمّ خلالها اغتيال أحمد الجعبري قائد كتائب عز الدين القسام.
3 ـ(2014) معركة «العصف المأكول» واستمرت لمدة 51 يوماً شنّ خلالها العدو 60 ألف غارة على القطاع وسقط فيها 2322 شهيداً.
4 ـ (2019) معركة «صيحة الفجر» حيث استهدف العدو بصاروخ قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في غزة بهاء أبو العطا فردّت حركة الجهاد بعملية استمرت حوالى 7 أيام.
5 ـ(2021) معركة «سيف القدس» حيث أطلقت المقاومة 4 آلاف صاروخ على الأراضي المحتلة عام 1948، وبعض تلك الصواريخ تجاوز مداه 250 كم، وأسفرت هذه المعركة عن استشهاد 250 فلسطينياً.
كلّ هذا يعني أنّ أهالي غزة قد ألِفوا الحروب سواء كفصائل مقاومة او كشعب، حيث في كلّ معركة يسقط شهداء أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ وتهدم مناطق باكملها.
من هذا وغيره نفهم انّ معركة «طوفان الأقصى» التي لا تزال تجري وقائعها على الأرض هي امتداد طبيعي لسلسلة معارك فصائل المقاومة مع العدو الصهيوني.
19 ـ تاريخ طويل من المواجهات بين حزب الله لبنان و»إسرائيل» من عام 1982 إلى حرب تموز 2006 وما بعدها…
20 ـ كان العدو الصهيوني يمرّ بمرحلة سياسية معقدة بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة وخروج تظاهرات مليونية لإسقاط حكومة نتنياهو اليمينية وتدهور الأوضاع الداخلية لدرجة بدأ بعض الكتاب اليهود يعودون الى أدبياتهم القديمة بأنّ اليهود لا تدوم لهم دولة أكثر من ثمانين عاماً على طول التاريخ وقد تسقط قبل هذا التاريخ «دولة إسرائيل» الحالية.
21 ـ امتلاك فصائل المقاومة سلاحاً متقدّماً قادراً على ان يصل الى أبعد نقطة في الكيان وعجز المضادات الجوية الإسرائيلية عن مواجهتها وتحييدها، واعتقاد قادة المقاومة انّ «إسرائيل» تعيش أيامها الأخيرة…
يقول السيد حسن نصر الله في لقاء جمعه مع مجموعة من الكتاب والمحللّين السياسيين في لبنان «لقد أكملنا الاستعدادات لخوض المنازلة الكبرى ضدّ إسرائيل، وإذا تدخلت أميركا فأهلاً وسهلاً بها».
قبل شهر من الآن انتهت معركة طوفان الأقصى عسكرياً، وتبيّن أنّ جيش العدو الصهيوني غير قادر على أن يحقق إنجازاً عسكرياً، بل تورّطت قطعاته وسط حطام وركام المنازل المهدّمة وقوة عسكرية مجهولة المكان تخرج من تحت الأرض وتجهز على عدوها…
صحيح انّ الضحايا المدنيين ربما سيصل عددهم الى 35 ألفاً ولكن كلّ أدبيات الحرب تقول انّ الجيوش التي تستهدف المدنيين تخسر المعركة، فأميركا قتلت 3 مليون مدني في فيتنام لكنها خرجت من المعركة خاسرة ومثل ذلك في العراق وأفغانستان.
انّ كلّ المفكرين والكتاب وصولاً إلى قادة المقاومة أنفسهم أكدوا بعد أيام من معركة «طوفان الأقصى» انّ «العالم بعد هذا الطوفان هو غيره ما قبل المعركة مؤكدين على:
1 ـ عزلة «إسرائيل» عالمياً وانعكاس ذلك على العلاقات الدولية وتأثير «إسرائيل» في المنطقة والعالم.
2 ـ تراجع النفوذ الأميركي ليس على مستوى منطقة الشرق الأوسط، إنما العالم فقد خسرت أميركا الكثير من سمعتها بسبب دعمها لـ «إسرائيل».
3 ـ ارتقاء القضية الفلسطينية لتكون محط أنظار العالم بعد ان غيّبها الإعلام الغربي والصهيوني.
4 ـ عودة التفكير في قضية حلّ الدولتين وإيجاد دولتين متجاورتين لليهود وللعرب.
5 ـ ارتقاء محور المقاومة ليكون رقماً مهماً في المعادلة السياسية والعسكرية في المنطقة.
6 ـ صعود إيران كقوة داعمة لقوى التحرر في العالم وصناعة مستقبل المنطقة.
7 ـ تصاعد النفوذ الصيني في المنطقة والعالم لموقفها المميّز في دعم القضية الفلسطينية.
8 ـ تأثير معركة طوفان الأقصى والقضية الفلسطينية على معظم الانتخابات التي جرت خلال الأشهر الماضية من عمر المعركة وفي المستقبل أيضاً بين منتصر للقضية الفلسطينية وبالضدّ منها.
9 ـ تراجع اليمين على مستوى العالم لأنه وقف مع الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
10 ـ وقف مشاريع التطبيع التي تخطط لها أميركا و»إسرائيل»، فقد أثبتت معركة طوفان الأقصى هشاشة «إسرائيل» عسكرياً وسياسياً.
11 ـ خلق تفاهمات عربية إيرانية في كثير من الملفات في المنطقة وتمدّد تيار المناوئين لأميركا.
12 ـ صعود التيارات السياسية في مصر والأردن والمغرب المعادية للتطبيع وتغيّر الخارطة السياسية في هذه الدول.
13 ـ بداية الانهيار لـ «إسرائيل» كـ «وجود مفترض» في المنطقة وصانع للأزمات.
14 ـ بداية التفكير الجادّ في أميركا بأنّ «إسرائيل» اصبحت تمثل عقدة لها وتتقاطع مع مصالحها.
15 ـ معركة «طوفان الأقصى» اشترك فيها جميع فصائل المقاومة (فلسطين، لبنان، العراق واليمن) وأديرت بغرفة عمليات واحدة، حيث المشاركة وفق التكليف، ولا يحقّ (الاجتهاد) لذا جاءت نتائجها موفقة وناجحة، وأسست لمستقبل يقول (من يفكر ان يحارب محور واحد للمقاومة فهو مخطئ، لأنه سيجد جميع المحاور تحاربه).
قد يسأل البعض هل جاء قرار مجلس الأمن موافقاً للرأي الأميركي؟
تدرك أميركا انّ منطقة الشرق الأوسط منطقة أزمات وانها ترغب بالتفرّغ لحرب أوكرانيا وأزمة تايلاند ومشكلتها مع الصين، وانّ حرب غزة اضطرتها ان تنقل الكثير من معداتها العسكرية وبوارجها للمنطقة، كما شغلتها سياسياً، واضطرارها للقيام بزيارات واسعة للمنطقة، ناهيك عن الحرج الكبير الذي تسبّب لها به موقفها الداعم لـ «إسرائيل» واستخدامها «الفيتو» ضد قرارات مجلس اللأمن بوقف اطلاق النار بغزة، لذا فإنها كانت ترغب «بوقف إطلاق النار» ولكن ليس بهذه النهاية الخاسرة للمعركة لـ «إسرائيل»، وفي كلّ الأحوال ستحاول الاستعانة بأصدقائها في المنطقة لإيجاد «تخريجة» لما بعد معركة طوفان الأقصى، ونعتقد ان أميركا ستعمل على…
1 ـ الاستعانة بالصين في حلّ جذري للقضية الفلسطينية بشكل عام باعتبار انها مقبولة لدى «طرفي الصراع».
2 ـ إجراء تفاهمات مطولة مع إيران بشأن محور المقاومة والتهدئة وتشكيل الجغرافية السياسية للمنطقة.
3 ـ العمل على منع نشوء حرب بين لبنان و»إسرائيل» وحلّ مشكلة الحدود.
4 ـ من الصعب على أميركا ان تتفرد بصناعة مستقبل القضية الفلسطينية وفق أهوائها.
5 ـ ستعمل على حلّ مشكلتها مع اليمن وإبقائها كدولتين في الشمال والجنوب.
6 ـ ستعمل السعودية والإمارات على حلّ مشكلتها مع صنعاء.
7 ـ من الصعب على أميركا إدخال أوروبا «حلف الناتو» في حرب مع روسيا فقد تتمرّد على قراراتها.
8 ـ سيتمّ الحديث كثيراً عن حلّ الدولتين لكن من الصعب رضا الطرفين سواء المقاومة أو «إسرائيل».
9 ـ حتى لو جاءت أحزاب أقلّ تطرفاً في إدارة «إسرائيل»، فإنّ المواطن الصهيوني داخل «إسرائيل»، حتماً سيفكر بمكان آخر أكثر أمناً واستقراراً، بدلاً من العيش في مكان محاط بالصواريخ، وحكومات صانعة للأزمات مع الجميع.
10 ـ يتفق الجميع على أن السلاح الذي قاتلت به المقاومة كان من (صناعة إيران) وهذا الأمر سيؤخذ بعين الاعتبار سواء مع إيران كقوة عسكرية متقدّمة أو مع المقاومة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى