أولى

أيّهما الأهم والأجدى: الانتقام أم الانتصار؟

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
لا يحتاج المتابع الموضوعي لتطور الأحداث وتداعياتها إلى كبير عناء كي يدرك مدى خطورة الواقع القائم الذي أوصلت إليه عدوانية الكيان الإسرائيلي المنطقة بعد مرور ستة أشهر على وحشيّة تجاوزت كل حدود الوحشيّة في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وعلى الرغم من ذلك كله لم تستطع حكومة نتنياهو تقديم صورة واحدة لـ «النصر المطلق» الذي لطالما تكرّر ذكره على لسان نتنياهو وبقية المسؤولين في حكومته الأشدّ تطرفاً في تاريخ الكيان الغاصب منذ لحظة الإعلان عن زرعه عنوة فوق الأراضي الفلسطينية عام 1948، وأمام الإصرار على الكذب وتكرار إطلاق الوعود والتبشير باقتراب بلوغها، مع اليقين بالعجز عن تحقيق ذلك، واستحالة بلورة ذلك النصر المتوهّم ازدادت حدة الأصوات المحذرة من خطورة استمرارية الانجرار وراء تعنتٍ يقود إلى هاوية حتمية، ويغرق الكيان جيشاً ومستوطنين وحكومة بأوحال غزة التي صنعوها بأنفسهم. وما يميّز تلك الأصوات ويجمع بينها صدورها عن شخصيّات كان لها الدور الفاعل في حياة الكيان الإسرائيليّ، فمنها ما صدر عن رؤساء حكومات ووزراء حرب أو رؤساء أركان وأجهزة استخبارات إسرائيليّة، ومنها مَن ينتمي إلى الوسط الفكري والإعلامي ومشهود له داخل الكيان في تقديم الدراسات والتحليلات الاستراتيجية التي تجيد قراءة الواقع واستشراف آفاق المستقبل. وهناك مَن هم خارج الكيان لكنهم معروفون بشدّة دفاعهم وتبنيهم لكلّ الطروحات العدوانية الإسرائيلية على امتداد عقود، والقاسم المشترك بين أولئك جميعاً يتمحور حول الخوف على مستقبل الكيان الذي يقوده نتنياهو نحو المجهول بتعنتٍ وغطرسة ورفع لسقوف الأهداف غير القابلة للتحقق، مع رفع سقوف العدوانية والإفراط في استخدام القتل والإجرام وارتكاب المجازر المتناقضة جملة وتفصيلاً مع كل ما له علاقة بالأعراف الإنسانيّة وقيم المجتمع البشريّ، والتي لم يعد بالإمكان إخفاؤها، أو التهرّب من تداعيات المساءلة عن ارتكابها أمام بصر العالم وسمعه.
باختصار شديد يمكن القول: لم يكن يخطر في ذهن أي من أصحاب تلك الأصوات التحذيرية أنّ «الصبيانية السياسية» والتهوّر قد يصل إلى درجة استهداف المبنى القنصليّ للسفارة الإيرانية في دمشق، لأن مثل هذا التصعيد يهدّد بجرّ المنطقة برمّتها إلى أتون نار لا أحد يستطيع تحمّل مسؤولية تداعياتها المفتوحة على المجهول، ومع الساعات الأولى للإعلان عن الجريمة الإسرائيلية التي تخطّت كلّ السقوف المعروفة سابقاً غصَّت وسائل التواصل الاجتماعي بمزيج متناقض من التحليلات والقراءات التي تخاض بموجبها الحروب من المكاتب الوثيرة والأحلام والأمنيات الرغبوية والمشروعة، لكن المسافة بين الرغبة والواقع تحتّم على المهتمّين بتقديم صورة موضوعية قابلة للفهم تسليط الضوء على ما حدث والتوقف عند التطورات المحتملة والسيناريوات الممكنة ومناقشتها بعقل بارد بعيداً عن الانجراف في تيار الرغبات وردود الأفعال المستعجلة والرغبة بانتقامٍ مؤلم يلزم أصحاب الرؤوس الحامية على التفكير بعدم تكرار ما حدث، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى بعض الأفكار التي قد تساعد على توضيح الصورة، ومنها:
*نزعة الإجرام والقتل والعربدة المتناقضة مع كل ما له علاقة بالقانون الدولي ليست حديثة الولادة لدى مسؤولي هذا الكيان الإرهابي، بل هي متأصلة في طرائق تفكير المسؤولين الصهاينة، وما كان لها أن تتضخم إلى أن وصلت إلى ما هي عليه لولا الاطمئنان التام إلى أن سيف الفيتو الأميركي يضمن الحماية المطلوبة لبقاء مجرمي الحرب الصهاينة بعيداً عن أي مساءلة دولية، ولطالما عرف عن الإدارات الأميركية المتعاقبة تعطيل مجلس الأمن وشلّ إرادة المجتمع الدولي كرمى لعيون «إسرائيل»، وبالتالي لا داعي للخوف من أي تداعيات في كل ما يتعلق بخرق القانون الدولي والإنساني وانتهاك ميثاق هيئة الأمم المتحدة ومنظّماتها الرسميّة على اختلاف مسمّياتها.
*صحيح أنّ الجريمة النكراء الإسرائيلية الجديدة تجاوزت كلّ السقوف المتوقعة، لا بل نسفت تلك السقوف، فالسفارات والقنصليات ومقار البعثات الدبلوماسية محصّنة قانونياً بموجب اتفاقية دولية موقع عليها من جميع الدول في هيئة الأمم المتحدة، ولا يجوز لأي طرف استهدافها حتى لو كان في حالة حرب معلنة ومشتعلة. وهذا يعني أنّ الجريمة الإسرائيلية فضلاً عن كونها عدواناً موصوفاً وانتهاكاً فاضحاً لسيادة دولتين مستقلتين وعضوين في المنظمة الدولية، فهي قبل ذلك خرق للقانون الدولي وانتهاك لميثاق هيئة الأمم. وهذا ليس جديداً على كيان الاحتلال المتمرّد بغطاء أميركي يضمن إمكانية تكرار الجرائم بدون مساءلة.
*قد يكون مفيداً استحضار بعض الأخبار التي تمّ تسريبها عبر منصات التواصل بعد الإعلان عن العدوان الإسرائيلي الذي استهدف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، وأدّى إلى استشهاد قادة كبار من الحرس الثوري تغمّدهم الله جميعاً بواسع رحمته، وسأكتفي بعرض بعض ما يتعلق بعنوان المقال، ومنها:
ـ البيت الأبيض: «نحن على علم بتقارير عن ضربة جوية إسرائيلية على قنصلية إيران بدمشق».
ـ هيئة البث الإسرائيلية: «الجيش انتظر مغادرة القنصل الإيراني واستهدف القيادي في فيلق القدس محمد رضا زاهدي».
ـ غالانت ورئيس الأركان وقيادة الموساد في غرفة العمليات في قاعدة «رمات ديفد» الجوية في الشمال لحظة ضرب القنصلية.
*قراءة مضامين الأخبار الأربعة السابقة يشير إلى أن الأمر مرتّب مسبقاً، ومتفق عليه مع الجانب الأميركي، وجميع الإجراءات والتدابير المتوقعة مأخوذة بالحسبان في حال تمّ الردّ على هذا التصعيد الخطير بما يوازيه في الداخل الإسرائيلي، وهذا يعني ويؤكد أنّ حكومة نتنياهو وإدارة بايدن متفقتان على إشعال المنطقة بأدوار متكاملة، وليس ثمة خلافات بين المجرمين، كما يتمّ الترويج له إعلامياً.
*سبق العدوان الإسرائيلي على مبنى القنصلية الإيرانية تصعيد غير مسبوق للعدوان الإسرائيلي على عدة مناطق سورية في محيط دمشق وحلب، وتكرّر الأمر بالتزامن مع تصعيد داعشيّ على محور بادية تدمر ودير الزور، وتصعيد من هيئة تحرير الشام الإرهابية وبقية الفصائل الإرهابية المسلحة، حيث كانت الساعة الصفر مشتركة بين العدوان الجوي الإسرائيلي وبين تحرك تلك المجاميع المسلحة على عدة اتجاهات في أرياف إدلب وحماة واللاذقية وحلب، فهل يوحي مثل هذا التكامل المتزامن في التنفيذ الميدانيّ أنه تدريب عملياتي مسبق بالذخيرة الحية على تصعيد محتمل بعد استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق؟
*إذا أعدنا قراءة كلّ ما ذكر في ضوء الواقع الميداني الذي فرضته المقاومة الفلسطينية في غزة، وما أثمره صمودها من تعثر وإخفاق عسكري إسرائيلي مركب، والعجز عن تحقيق أيّ من الأهداف الاستراتيجية التي تمّ الإعلان عنها، باستثناء القتل والتدمير وارتكاب الجرائم والفظائع، ومع حالة التشرذم والتشظي والانقسام داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، وحتى داخل كابينت الحرب بزعامة نتنياهو، وإذا أضفنا إلى كلّ ذلك تبدّل الصورة في الرأي العام العالمي، وسقوط السردية الإسرائيلية، واستعادة القضية الفلسطينية التعاطف العلني الدولي وحضورها الفاعل والمؤثر مع تآكل الهيبة الأميركية وتململ دولي من الإجرام الإسرائيلي فأي صورة تتضح؟
*يجمع الكثير من المحللين ومراكز الدراسات العسكرية المنتشرة في مختلف دول العالم على أنّ حكومة نتنياهو تعيش استعصاء مزمناً عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً وسياسياً، والسبيل الوحيد الممكن للخروج من وضع محصور كهذا بإمكانية الهروب إلى الأمام وتوسيع دائرة الحرب، فهل من الحكمة مساعدتهم في بلوغ ما يريده، والانجرار إلى حرب كبرى خطط لها واختار توقيتها ومسارح عملياتها العدو الإسرائيلي بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، أم أنّ البديل الممكن الأفضل يكون بالاستمرار في استراتيجية الانتصار بالنقاط ومراكمتها بدلاً من الانتقام الذي قد يقود إلى واقع جديد مفتوح على المجهول.
خلاصة: من حق كلّ أنصار الحق والكرامة والسيادة والإنسانية ومواجهة الطغيان والظلم أن يفكروا ويتمنوا اتخاذ التدابير الكفيلة بلجم عربدة الإجرام الإسرائيلي. وقد أثبتت أطراف محور المقاومة أنّ أداءها المتكامل يفضي إلى هذه النتيجة المرجوّة، وتمّ قطع أشواط عديدة على هذا الطريق، ومن المهمّ اليقين بقدرة المقاومين على اجتراح النصر، فهم أسياد الحكمة وآساد الحرب. ومن الممتع متابعة تشكل المشهد الذي لما تكتمل معالمه بعد، وعلى اللمسات الأخيرة في هذا المشهد الإقليمي يتوقف حاضر المنطقة ومستقبلها، لا بل تتوقف ولادة نظام عالمي جديد، وعندما توضع في كفتي الموازنة ثنائية الانتقام الآني أم الانتصار الناجز الشامل والقريب، فمن الطبيعيّ أن تكون الأولويّة لرجحان كفة عشاق الانتصار…
وإن غداً لناظره قريب.
*باحث سوريّ متخصّص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى