مقالات وآراء

بين رصاصتين…

‭}‬ مريانا أمين
نحن شعوب لا نعاني من الانفصام لكننا نعيش كلّ لحظة على انفراد.
فخلال الحروب كلها إنْ كانت أهلية أو ضدّ عدوّ خارجي، في أكثر الأوقات صعوبة أصوات الرصاص والقذائف التي تنهمر فوق سطوح البيوت، فكان لا بُدّ من بناء ما يسمّى «ملجأ» عبارة عن غرفة مدعّمة بحيطان إسمنتية رادعة نوعاً ما لبعض أنواع العتاد الحربي؛ يحتمي داخلها أصحاب البيت أو قاطنو البناية خلال عمليات القصف.
وكانت العمليات تستمرّ لساعات أو لأيام وأحياناً إلى أكثر من شهر، وكلّ حرب كانت تسمّى بإسم معيّن يختاره أصحاب القرار لتؤرَّخ بعناوين عريضة في الكتب الحديثة.
لكن ما كان يحصل سابقاً يشبه كثيراً ما يحصل حالياً في هذه الفترة الصعبة من تاريخ الحروب من أمور يعتبرها البعض لا قيمة لها لكنها بحدّ ذاتها تعكس ما تحتويه النفوس من أمل وألم.
فما زالت هذه الصور في مخيلتنا نائمة إلى أن أتت هذه الحرب لتذكرنا بتفاصيل كنا نعتبرها مؤلمة في وقت كنا نفقد فيه عزيزاً إنْ كان من الأقارب أو الجيران أو من أبناء الوطن عامة.
فذاكرتنا مليئة بالقصص خاصة في الملاجئ عندما يجتمع أهل المبنى ليسهروا وليناموا إذا استطاعوا للنوم سبيلا على «مطلع الدرج» لأنه بعيد عن شبابيك الزجاج قليلا وقذيفة «الهاون» ربما لا تصل إليه بسهولة، فإذا كان المبنى من سبع طبقات يكون الملجأ هو درج الطبقتين الثالثة والرابعة، وبلحظة تبدأ فيها أصوات الرعب تنهمر ليركض الجميع إلى الدرج ويأخذ كل واحد منهم زاوية مع زوجته وأولاده. أما الأمر المذهل الذي لو شاهده العالم أجمع في فيلم سينمائي فلن يصدقه!
فعندما يتوقف القصف لثانية أو لدقيقة ومن ثم لدقائق لسبب ما فربما كما كنا نفكر ونحن أطفال أنّ يد القابض على زناد الآلة القاتلة تعبت قليلاً، أو لأمور «تكتيكية».
وخلال هذه الدقائق يتجمع الشباب للعب «ورق الشدة» علّهم يكسبون شعوراً بالربح من نوع آخر.
أما النساء فكانت منهن من تقطن الطابق المذكور تسارع لتصنع القهوة علّ الماء يغلي قبل أن يبدأ القصف من جديد فتذهب مسرعة وهي تقول «انشالله لحّق أعمل لكم فنجان قهوة»!
وإمرأة أخرى تتنفس قليلاً وتبتسم لبناتها ومن ثم ترتب لهن شعرهن لتصنع جدائل تشبه سنابل القمح الذهبية كي لا يمتلئ الشعر بالغبار فالماء ربما ينقطع ولا يستطعن الاستحمام لأيام متتالية، وإمرأة ثالثة التي تعتبر نفسها أجمل نساء الحي تأخذ فوراً من حقيبتها الجاهزة دائماً تحت إبطها قلم حمرة الشفاه التي تسمّيه «الروج» مع مرآة صغيرة لتضعه على شفاهها ومن ثم تزيد نقطتين على الوجنات لتُبقي وجهها في حالة نضارة دائمة ما بين الرصاصة والرصاصة؛ أما بعض الفتيات فيبدأن بالجدال فواحدة تقول: «كان عدد القذائف خمسين».
والثانية تقول: «كلا اثنتان وخمسون» والثالثة تقول رقماً آخر ليس ببعيد ويتخاصمن لأنّ واحدة اتهمت الأخرى بأنها غير متمكنة من مادة الحساب في المدرسة ولهذا فهي تعدّ عدد الرصاصات والقذائف بطريقة خاطئة.
أما المراهق المختبئ في الملجأ فيحدّث من حوله عن «جيمس بوند» و «ألان ديلون» وكيف سيصبح مثلهم في المستقبل، ليسكته آخر بقوله «لا توسع مخيلتك عيب عليك فأنت ستصبح مناضلاً هنا في لبنان فقط لا غير»، وبما أن العقل اللبناني عنيد ومتشبّث في رأيه فيدور الحوار مناكفة تارة واستهزاء بالرأي الآخر تارة أخرى ليصدح صوت أحد الآباء بالقول «نحنا وين وأنتم وين»!
أما الفتاة إبنة العشرين تجلس وحيدة تفكر وهي تغني جملة من أغنية لصباح وجملة من أغنية لفيروز وهي تعدّ على أصابعها الأيام المقبلة متأمّلة أن تنتهي الحرب قبل موعد زفافها ولو بيوم واحد كي يستطيع العريس وأهله المجيء من منطقة أخرى وتستطيع تحضير نفسها لتكون عروس الحي الجميلة ويتكلم عن بهجتها الجميع. لتردّ عليها صديقتها ممازحة وهي تضحك بصوت عال: «يا ريت بتطول الحرب يومين كي يلغوا الامتحانات المدرسية».
وتأتي القهوة!
وما ان يبدأوا بشرب أول شفة منها تقع القذائف على السطوح من جديد وتنتشر الشظايا لنسمع صراخ الجيران ولا نعرف من أصيب منهم ومن نجا، فترقد القهوة جانباً لتبرد على مهل كبرودة أعصاب مطلقي النار.
تنتهي حفلة الحرب وتصفق العروس فرحاً لتقول «أخيراً خلصت قبل العرس»؛ ليجتمع أهل الحي معاً في حفلة زفافها بأجمل حلّة على صوت «الزغاريد» والأغاني الشعبية متمنّين لها زواجاً هنيئاً وأطفالاً سعداء علّهم يعيشون في أوضاع هانئة…
بعد سنوات أنجبت الأطفال وعاشوا مثلها حرباً تليها حرب أخرى، وفرحوا وضحكوا بين الرصاصة والرصاصة كحال من سبقهم لكن! المختلف هو إسم الحرب وزمانها. فكما تعرفون لكلّ حرب عنوان.
ولمَ لا! كلّ هذا كي لا يدمج المؤرّخ بينها ويضيع القارئ بين حربين وهو نفسه كان قد نجا باعجوبة بين رصاصتين…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى