مقالات وآراء

الإصلاح الوطنيّ حاجة ملحّة وبعد زلزال بيروت أصبح واجباً قومياً شديد الإلحاح

} د. ادمون ملحم

بعد الانفجارالزلزال الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت: القاعدة الاستراتيجيةالاقتصادية ونتجت عنه كارثة إنسانيةوطنية كبيرة، ومؤلمة، تمثّلت باستشهاد وفقدان ما يفوق المئتين من المواطنين وجرح أكثر من خمسة آلاف ودمار كبير في البنى والمؤسسات والأحياء وخسائر اقتصادية ومالية وتراثيّة ضخمة وفقدان آلاف من الناس لمنازلهم ومصالحهم وتشرّدهم نتيجة انهيار الأبنية وتصدّعها، بالإضافة إلى حرمان بيروت من مرفأ حيوي هو بمثابة القلب الذي يضخّ الحياة في شرايين الاقتصاد اللبناني وخلاياه.. بعد هذه النكبة الوطنية الفظيعة وما نتج عنها من مآسٍ وأوجاع وأحزان، يتحتّم على جميع المسؤولين في الدولة اللبنانية الإسراع في عمليات الإصلاح الجذري الضروري الذي لطالما تحدثوا عنه ووعدوا الشعب به في أحاديثهم وتصاريحهم وبياناتهم ومؤتمراتهم وحملاتهم الانتخابية، ولكن كل وعودهم بقيت كلاماً فارغاً لا فائدة منه، لأن أولوياتهم كانت دائماً تُختصَر بكيفية نهب أموال الدولة وتحقيق المكاسب الخصوصية والامتيازات المذهبية على حساب مصالح الشعب وحقوقه.

لقد دأب المسؤولون في لبنان على طلب المساعدات المالية من الخارج بغية إتمام المشاريع الإنمائيةالعمرانيةالإصلاحية وكانوا في كل مرة يحصلون على المساعدات يوافقون على تنفيذ شروط الدول المانحة بإجراء الإصلاحات السياسيةالاقتصاديةالإدارية وباعتماد القانون والمحاسبة والشفافية والإنتاجيّة، ولكن في الواقع لم يحققوا لا مشاريع ولا إصلاحات، بل كانوا يهدرون الأموال ويتقاسمون الحصص والمكاسب في حين أن الشعب المقهور مغمور بالمتاعب والمعاناة من الفقر والبؤس والبطالة والذل وغياب الخدمات والرعاية والإنماء نتيجة تراكم الأزمات وتفاقمها في دويلةالمزرعة الطوائفيّة التي رسمها لنا الاستعمار الفرنسي، وأعلنها الجنرال غورو منذ مئة عام، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الإفلاس والانهيار الشامل في هذه الدويلة وعدم الثقة بكل الطبقة السياسية الفاسدة، الجشعة، والمتحكّمة بمقدرات البلاد والعابثة بمصالح الناس.

الدولة المدنيّة الحديثة التي حلمَ بها اللبنانيون لعقود مضت.. هذه الدولة المنشودة التي تحترم القانون وتكفل الحرية والعدالة والمساواة لجميع المواطنين لم تبن حتى اليوم وما زالت حلماً بعيداً يتغنّى به الجميع على أمل الإنجاز في المستقبل..

ما هي المعوِّقات أمام بناء الدولة العصرية؟ وكيف تُبنى هذه الدولة التي من أهم واجباتها الاهتمام بمصالح الشعب وبتأمين رفاهيته وسعادته في الحياة؟

برأينا هناك أسباب عديدة في عدم بناء الدولة الحديثة حتى اليوم. وللاختصار سنكتفي بإيجاز أربعة أسباب نرى أنها أساسية ومهمة:

السبب الرئيسي الأول يرتبط بهذا النظام السياسي الطائفي الجامد الذي يقهر الشعب ويستبيح كرامته ويهضم حقوقه وينهب خيراته.. هذه النظام الفاسد بامتياز يمنع الخرق الفعلي لبنيته من قبل الأحزاب العقائدية العلمانية ويقاوم أية محاولة إصلاح أو تغيير، وهو مرتهن للإرادات الأجنبية ويسعى دائماً للحفاظ على منافعه ومكاسبه وترسيخ نفوذه وضمان استمراره من خلال أساليب الفساد والوراثة والتكاذب والتزوير والاحتيال والقهر والاستبداد وتصويره للشعب أن الظروف غير مؤاتية لإجراء إصلاحات وأن الإصلاح سيقود إلى أزمات لا تُعرَفْ نتائجها.

السبب الثاني هو أن المؤسسات الاجتماعيّة والتشكيلات السياسية القائمة في المجتمع هي مؤسسات الاقطاع السياسي والعشائر والعائلات والمذاهب الدينيّة وهي بمعظمها مؤسسات خصوصيّة تقليديّة انتفاعيّة تدّعي الوطنية والتقدمية ولكنها تعمل لمنافعها وغاياتها الخصوصية وتتضارب فيما بينها لتنتج سياسة العائلات والمذاهب وثقافة الحقد والفتنة والتعصب والانقسامات الطائفية والتصادم الاجتماعي والأنانية العمياء. هذه المؤسسات اللاقوميّة المتنافرة والمتضاربة المصالح والأهداف، والقائمة على التبعية للخارج، لا تصلح لحاجات الأمة ولإيقاظ الحس الاجتماعي بين أبنائها ولا تأتي بالتربية القوميّة المولِّدة للتعاون الاجتماعي ولثقة الشعب بنفسه التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الجبّارة والتي تدفعه إلى حل قضاياه بنفسه وإلى تحسين حياته والسير إلى ما فيه صلاحه وفلاحه..

وثالثُ الأسباب يكمن في الاهتمام كثيراً بالنجاح الفردي والحياة الفردية وحاجاتها دون الاكتراث للمصلحة العامة ولقضية المجتمع وأغراضه وللنجاح القومي العام الذي يشكِّلُ ضمانة للنجاح الفردي وينعكس على الأفراد خيراً وعزاً وسعادة.

ورابعُ الأسباب الرئيسيّة يكمن في إهمال الإنتاج العلمي والمعرفي والفكري وعدم السير في مسارات التجديد والإبداع والاعتماد على التفكير العملي الحقيقيّ الذي يتناول المجموع ويدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه والذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في شؤون الحياة القوميّة..

في مطلع الثلاثينيّات كتب أنطون سعاده داعياً أبناء شعبه للمباشرة في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القوميّة من الأدران النفسيّة والصدأ العقلي ومطالباً بوجوب اعتمادنا على التفكير العملي لأن العصر الذي نعيش فيه عصر عمل وتحقيق مطالب عليا، فقال: «لقد تعلّمنا في ما مضى أن نهتمّ كثيراً بحياتنا الفردية وأن نحافظ كثيراً على جلودِنا. كانت نتيجة ذلك أننا أهملنا حياتنا العامة حتى دبَّ فيها الفساد وملأها غِلاً وغشاً وحقداً وبغضاً وحسداً ونميمةً ورياءً وأصبح محيطنا كله يعجّ بالفساد ويضج».

هل اقتنعت الطبقة الحاكمة بضرورة الإصلاح بعد زيارة الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، لبيروت، بهدف تمتين الوجود الفرنسي التاريخي في المنطقة ولعب دور وبناء سياسات تضمن مصالح فرنسا وحلفائها الغربيين، وتحذيره للمسؤولين بضرورة الالتزام بشروط المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي والمباشرة الفوريّة بعمليات الإصلاح لكي يحصلوا على المساعدات المالية؟

إن الإصلاح، الذي يعني الصلاحَ فكراً وعملاً وبناءً، هو مسؤولية وطنية وحاجة ملحّة في كل شأن من شؤون حياتنا القوميّة ولا يمكن لأي عاقل أن يتنكّر له. فكيف نخرج من الانهيار الحاصل ومن واقعنا المأزوم بالمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية إن لم نبادر إلى القضاء على وباء الفساد ومحاسبة الفاسدين والسارقين والمرتكبين الجرائم الوطنية وإلى إجراء إصلاحات جذرية في هذا النظام تؤدي إلى اجتثاث الطائفية وإزالة عوامل التفرقة والتخلف والفوضى والإهمال وتهيئ الأسباب الكافية للنهوض القومي الشامل ولبناء المجتمع المتمدن الراقي؟

 من دون الإصلاحِ كيف نواجه حالاتِ البؤس والحرمان والاستغلال والتمزق الاجتماعي وهجرة الشباب والتطرف المذهبي وموجات التطرف والإرهاب وأحقادهما وما أنتجتهما من مآسٍ وفظائع نحسُّ بأوجاعها كل يوم؟

من دون الإصلاحِ الفعلي وبناءِ المجتمع المحصّن وقيامِ الدولة القادرة كيف نواجه دعوات الذل التي نسمعها من بعض الفئات الفاقدة للشعور الوطني لعودة الاستعمار التركيّالعثمانيّ وترفع علمه في بعض المناطق اللبنانية ونسمعها أيضاً من فئات أخرى منهزمة بنفوسها تطالب من دون حياء وخجل بعودة الاستعمار الفرنسي ليحكمنا وليرسم لنا مستقبلاً آخر لمئة عام مقبلة. ومن دون الإصلاح وقيام الدولة القوية، المرتكزة إلى عمقها ومحيطها القوميّ الطبيعي والمتعاونة بعلاقة طبيعيّة ومميّزة مع الدولة الشاميّة، كيف نواجه إرهاب دولة العدو وأطماعها في ثرواتنا ومواردنا الطبيعية وفي ابتلاع وطننا وطمس هويتنا؟ ومن دون جيش قوي ومقاومة باسلة، يتلقيان الدعم من شام الصمود ومحور المقاومة، كيف نحرّر مزارع شبعا وباقي القرى المغتصبة وتتصدى لعدونا الإرهابي الذي لا يكّف عن اعتداءاته علينا وعن ممارسة غطرسته وتهديداته المستمرة؟

مصلحتنا الوطنية تحتم علينا أن نعيد النظر في الكثير من احوالنا الاجتماعية وأن نبادرَ إلى إصلاح مجتمعنا وتحصينه بالوعي القومي الصحيح الذي يؤسس لدولة المواطنة ولوحدة المجتمع وبعث فضائله النبيلة وتنمية روح التعاون بين أبنائه واستنهاض القوة الكامنة في نفوسهم.

مصلحة الجميع الأكيدة هي ان نتوّحد من أجل إنقاد البلد.. هي أن نتعاون جميعاً ونعمل بإرادة واحدة: هي إرادة الحياة، إرادة الخير والإصلاح والبناء.. فلنباشر معاً في ورشة الإصلاح الجذري ووضع مداميك الدولة الحديثة الضامنة لحرية الشعب وحقوقه والساهرة على رعاية مصالحه وتأمين بحبوحته وعيشه الكريم.. ففي ظلال الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها الجديدة الصالحة والمحرِّكة لطاقات الإنتاج والعاملة من أجل سلام المجتمع وضمان أمنه ورقيّه تتبدل المعادلات ويتحوّل الشعب بكل أجياله إلى قوة فاعلة ترتقي بالحياة إلى أعلى ما تتوق إليه النفوس من منعة وخير وبحبوحة وأمان ويكون لها القول الفصل في كل القضايا التي تخصّ الأمة وجوداً ونهوضاً وتقدماً وارتقاء.

 

بعد هذه النكبة الوطنية الفظيعة وما نتج عنها من مآسٍ وأوجاع وأحزان، يتحتّم على جميع المسؤولين في الدولة اللبنانية الإسراع في عمليات الإصلاح الجذري الضروري الذي لطالما تحدثوا عنه ووعدوا الشعب به في أحاديثهم وتصاريحهم وبياناتهم ومؤتمراتهم وحملاتهم الانتخابية.

***

في الواقع لم يحقق المسؤولون اللبنانيون لا مشاريع ولا إصلاحات، بل كانوا يهدرون الأموال ويتقاسمون الحصص والمكاسب في حين أن الشعب المقهور مغمور بالمتاعب والمعاناة من الفقر والبؤس والبطالة والذل وغياب الخدمات والرعاية والإنماء نتيجة تراكم الأزمات وتفاقمها في دويلة – المزرعة الطوائفيّة التي رسمها لنا الاستعمار الفرنسي.

***

لنباشر معاً في ورشة الإصلاح الجذري ووضع مداميك الدولة الحديثة الضامنة لحرية الشعب وحقوقه والساهرة على رعاية مصالحه
 وتأمين بحبوحته وعيشه الكريم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى