مقالات وآراء

التكتيك والاستراتيجية بين القيَم الثابتة والدبلوماسية السلبية

صادق القضماني

حين تُبنى الاستراتيجية على قاعدة الحق، يصبح التكتيك لتحقيقها إجراء مبنياً على القيّم، والعكس صحيح، التكتيك يحوّل الاستراتيجية إلى إجراءات، ودون ذلك لا يمكنك تحقيق الأهداف.
على وقع طوفان الأقصى، الذي يُعتبر من الناحية القيَمية حقاً أخلاقياً ثابتاً، كفعل وطني لسكان أرض محتلة، حيث نفذوا هجوماً مقاوماً ضدّ من يحتلّ أرضهم، ويحاصرهم ويشنّ حروب دائمة عليهم، بلا أيّ رادع أخلاقي رغم الفارق في ميزان القوة بهدف تدمير البنية التحتية وقتل أكثر عدد ممكن من السكان.
انّ طوفان الأقصى كفعل وطني نضالي ينضوي تحت الفعل التكتيكي كإجراء استراتيجي واضح الهدف، والمحدّد في تحرير كامل الأرض المحتلة، وكنس سيادة الاستعمار لتعود الأمور لنصابها كحق تاريخي وإنساني لهم، وهو ليس نموذجاً مستحدثاً، فهو فعل يعبّر عن ذهنية واحدة على مرّ التاريخ لكلّ الشعوب التي استُعمرت وظهر فيها قوى مقاومة حاربت المستعمر بكافة أشكاله، فهذا حقّ منصوص في الشرائع السماوية ومحميّ بالقوانين الدولية، وهو إنساني من الدرجة الأولى، ومبارك لدى جميع شعوب العالم التي عانت من ظلم ايّ استعمار مرّ عليهم؛ فكرة طوفان الأقصى عام 2023 من الناحية الذهنية الأساسية فعل توأم لعملية عيلبون عام 1964 التي نفذتها قوات العاصفة التابعة لحركة فتح ضدّ الكيان “الإسرائيلي”، الاختلاف فقط بالزمان والمكان وحجم الأضرار التي لحقت بالاحتلال، لكن من حيث التكتيك والاستراتيجية فإنهم بذات الهدف وعلى ذات الذهنية. وهو كذلك من حيث الهدف، على سبيل المثال لا الحصر، والعملية التي قامت بها جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة الشهيد سمير القنطار عام 1979 على مستوطنة نهاريا وتسبّبت بمقتل مستوطنين على أرض فلسطينيّي 48، تحمل ذات المبدأ الوطني مع ذهنية طوفان الاقصى، أيضاً بذات السياق نُفذت عملية اغتيال الإرهابي رحبعام زئيفي من قبل الجناح العسكري للجبهة الشعبية في 17 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2001 والقائمة تطول عن الفعل الوطني النضالي للفصائل الفلسطينية التي انطلقت في كلّ مكان وزمان لتنفيذ عمليات فدائية تحت هدف واحد، (الحق بالمقاومة لتحرير الأرض والإنسان)، بل هذه القائمة الطويلة التي تعود لقرن وأكثر من الزمن ركيزتها هو الأساس القيَمي النضالي المحقّ لكلّ شعب يبحث عن حريته أمام عدو رفض حتى السلام المزعوم، ويعيث قتلاً وتدميراً لكلّ سبل الحياة لدى الشعب الذي يملك الحق بالأرض والوجود.
بطبيعة الحال فإنّ الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) والإنتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) تمّ التخطيط لهم على ذات المعيار القيَمي الوطني وعلى ذات الاستراتيجية حتى لو اختلفت التكتيكات الميدانية، وهذه قيمة مسار نضال أيّ شعب وأيّ قيادة حيث تطوّر أدواتها وإمكانياتها حسب ميزان القوة والقدرات المستحدثة وما طوفان الأقصى إلا تراكمات نضالية بقدرات تختلف أدّت إلى فعل خاص في تاريخ الصراع، ومما لا شك فيه أنّ منفذي العملية استندوا إلى الأساس القيَمي الوطني والديني أثناء التنفيذ والذي أصبح معلوماً بأنّ العملية كان لها هدف استراتيجي واضح، نفذت في تكتيك عالي السرية، وأنجزت المهمة خلال ساعات قليلة، حيث تمّ خطف عسكريين وأجهزة حاسوب من مكاتب عسكرية أمنية وعادوا إلى قواعدهم، والمشهد الذي تلى العملية في ذات اليوم، هو فعل شعبي أو تنظيمي، كفعل غاضب على ما زرعه ظلم الكيان فيهم، وهذا بديهي وليس كارثياً ولم نرَ ايّ حادث قتل جرى لأيّ مخطوف داخل غزة، بل الحدث الذي ظهر فيه جثث، هو لجنود أثناء السيطرة على قطعهم أو في مواجهات خارج غزة، وبات مؤكداً أنّ آلة القتل للكيان الصهيوني بادرت لهجوم طال أماكن تواجد مستوطنين بهدف تسجيل مجزرة يستثمرها لتبرير هجومه المُعدّ له مسبقاً ضدّ غزة، ولأنها تفتقد القيمة القيَمية أعلاه مهما ادّعت أنها تحافظ على حياة مستوطنيها.
بناء على ذلك، بعد أكثر من خمسة أشهر، أشعلت الضمير الإنساني العالمي، وأسقطت الأقنعة عن حكومات الغرب لتظهر أدوات حماية لقاعدتهم المتقدمة في الشرق الأوسط المسماة (إسرائيل)، ليتعرّى القانون الدولي أمام قانون الغطرسة الممثل في رأس الارهاب في واشنطن، لا بدّ من وضع الأمور في نصابها، وعدم المهادنة في معركة الوعي التي تريد قوى الاستعمار وأدواتها، إحراز نصر فيها لتشويه الجدوى من المقاومة بهدف كيّ الوعي من جديد وتثبيت نهج التسويات التي تؤسّس لشكل الاستعمار الجديد.
استخلاصاً مما سبق، فإنّ الواقع العام، يوفر منصات تواصل للذين يؤمنون بجدوى المقاومة، وأولئك الذين يريدون تشويهها، والذين يلعبون بين هذا وذاك، ولا يمكن هنا اعتماد التوضيح على جميع المستويات بل من المؤكد نستطيع وضع خطوط حمر بديهية لكلّ مسؤول أو قائد عربي بشكل عام وفلسطيني بشكل خاص على مساحة فلسطين التاريخية، وتحديد من يبني استراتيجياته على القيَم الوطنية الأخلاقية، ومن يبنيها على ذهنيته الخاصة ليكسب بالتكتيك نقاطاً لصالحه، ويُسجل استراتيجياً فعلاً لا قيَم وطنية فيه، سيندم بعدها حين لا ينفع الندم.
تفسيراً لذلك، على كلّ مسؤول أن يدرس المعنى الحقيقي للتكتيك، بحيث تكون الإجراءات التي يتخذها هي لتحقيق الهدف الاستراتيجي، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاستراتيجية مكملة للتكتيك كهدف، حيث أنّ من يدين طوفان الأقصى كتكتيك، لا يمكن إلا أن يجني تحقيق هدف في جوهرة مبنيّ على إدانة القيَم الوطنية الأخلاقية، ولا يمكن إعادة تصويب خطابه او موقفه، ولذلك الفلسطيني المسؤول يجب أن ينهج منطق المصلحة القيَمية الوطنية على حساب ذهنيته ورؤيته إذا كانت لا تستسيغ النضال العسكري المقاوم، وحينها عليه أن يصرّح بكلّ وضوح بأنه لا يعترف بحق الشعوب في تقرير مصيرها بكافة أشكال المقاومة، فلا يجوز ان يكون تكتيكه إرضاء أعدائه تحت منطق الهدف الاستراتيجي بحق شعبه، هذا (تكتيك لا قيَمي).
عليه، فإنّ الاستراتيجية تُبنى على تحديد النهج والجمهور الذي تستهدفه للتأثير عليه، فإذا صرّح أيّ مسؤول فلسطيني على مساحة فلسطين الكاملة وأدان طوفان الأقصى، فإنه من البديهي قرّر بأنّ جمهوره المستهدف هو بالأساس مجتمع المستوطنين أو قادته، الأمر الذي يُسقط هذا المسؤول في خانة التشكيك بالهدف الاستراتيجي له، حيث يتحوّل من قيَمي وطني الي شخصي على حساب شعبه وحقه، وبذات الأساس يمارس دور كيّ الوعي لجمهوره الذي ينتخبه او ينضوي تحت تأثيرة، وهنا يمارس دور المستفيد منه وبشكل حصري، ذهن الاستعمار وقيادته.
لذلك على جميع القيادات الأخذ بالحسبان، أنّ تكتيكاتهم هي مسؤولية عامة فيها ضرر أو فائدة للمجتمع، فلا يجوز اعتماد الدبلوماسية السلبية لتحقيق أهداف إيجابية، فجميع أشكال الدبلوماسية السلبية كاتفاقيات السلام المزعومة على سبيل المثال، كانت أرضية لاستغلال العدو لها واستثمار الزمن من خلالها، ثم تفكيكها حين يريد، بل جعل متبنّيها في خانة الاتهام أمام شعبهم، كوسيلة إضافية لتثبيت وتعميق الانقسامات والفتن الممنهجة.
خلاصة القول، بين التكتيك والاستراتيجية توأمة الهدف ومن يحيد عن الأساس القيَمي للهدف، سيسقط في تكتيكه ليظهر بلا قيَم.
انّ طوفان الأقصى معركة مكملة لنضال الشعب الفلسطيني ومن روحية المقاومة في بلادنا، واستمدّت عنفوانها من انتصارات حرب تشرين التحريرية عام 1973 وتحرير الجنوب عام 2000 وعام 2006 ذكرى الانتصار العظبم، والصمود في المعارك الأخرى بمساندة محور المقاومة وبمشاركة ملازمة لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية على رأسها التنظيمات العسكرية لحركة فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية وحركة الجهاد الإسلامي التي استطاعت خلال السنوات الماضية إحراز انتصارات عميقة عسكرية سندت معركة الوعي والجدوى من المقاومة.
التكتيك والاستراتيجية لدى الأجنحة العسكرية باتت نموذجاً يُحتذى به، ومن لا يستطيع مساندتهم من القوى والشخصيات السياسية على أساس قيَمي وطني فليتنحَّ أو يصمت، وذلك بأقلّ تقدير خجلاً من حجم تضحيات وصبر أهالي غزة فلسطين، هؤلاء الأسطورة النضالية الخاصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى