أولى

تعريض الأكتاف بالإسفنج المضغوط

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
قرابة سبعة أشهر مرّت على إطلاق ديناميكية التوحش «الإسرائيلي» من كل عقال لتنفيذ إبادة جماعية بحق شتى مظاهر الحياة في غزة من دون حسيب أو رقيب… قرابة سبعة أشهر من القتل والتدمير والإيغال أكثر فأكثر في الدماء البريئة لأطفال فلسطين ونسائها وطواقم العمل الصحية والإغاثية والإعلامية، وكأنّ سفك تلك الدماء فعلٌ يجب أن يعتاد العالم على رؤيته، ليصبح تكراره أمراً روتينياً لا يثير الصدمة ولا حتى المفاجأة، إلى درجة أصبح فيها الكثيرون يتابعون في أوقات الفراغ والراحة تبدّل الأرقام في أعداد الشهداء والجرحى والبنى التحتية التي تطالها الوحشية الإسرائيلية، وغالباً لا تتجاوز ردة الفعل عن هزّة بالرأس توحي بأنّ الأرقام الجديدة لا تشهد تغيّرات جوهرية تستحق التوقف عندها، وكأنّ خطورة الأمر أصبحت محصورة في خانة الأرقام المتبدّلة إنْ كانت بالعشرات أم بالمئات، وهذا يعني تلقائياً أنّ انخفاض العدد في خانة المئات أصبح لدى «حراس الديمقراطية» في واشنطن ونيويورك وبقية العواصم التابعة مؤشراً نحو الانفراج أو تعديل مزاج المسؤولين الصهاينة وتخفيف، فورات نزعة القتل والإبادة والميل باتجاه الرغبة بالتهدئة، أو الاقتراب من التوصل لاتفاق تقبل به تل أبيب لقليل من التهدئة تحت عنوان إطلاق سراح «المعتقلين» لدى المقاومة الفلسطينية، وكأنّ آلاف المعتقلين الفلسطينيين منذ عقود لا تعني الغرب المنافق، كما لا تعنيه عشرات الآلاف من الضحايا والجرحى من الذين ارتقوا وأصيبوا منذ السابع من تشرين الأول الماضي، ناهيك عمن لا يزالون تحت ركام المربعات السكنية التي دُكَّتْ فوق رؤوس ساكنيها…
نعم قرابة سبعة أشهر وحكام تل أبيب ينتقلون من إفراط بارتكاب المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية على مسمع العالم وبصره، ويتابعون فصول المسرحية القذرة بتسويق خلافات بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن، وكأن جيش الاحتلال قادر على تكديس ما يرتكبه من إجرام موصوف لولا السيل المتدفق من الدعم الأميركي بخاصة والأطلسي بعامة، وعلى شتى الصعد والميادين العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية.
لا يحتاج المتابع المهتمّ لبذل الكثير من الجهد للتأكد من أن قدوم المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة، وإرسال الموفدين الأطلسيين والحديث عن قرب التوصل إلى وقف لإطلاق النار ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون لمنح حكومة تل أبيب الوقت الذي تحتاجه لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وتعميم حالة من الرعب المسبق لكلّ مَن يفكر بالخروج من بيت الطاعة الصهيو ــــ ساكسوني، فمنذ ما قبل الهدنة المؤقتة الأولى التي تمّ التوصل إليها بعد أقلّ من شهرين من حرب الإبادة الجماعيّة والتطهير العرقيّ والخطاب الأميركيّ يتأرجح بين «قلق» من ازدياد أعداد الضحايا الفلسطينيين، وبين التشدّق بضرورة سماح تل أبيب بدخول المساعدات الإنسانيّة، ولو بحدّها الأدنى، أو رفع مستوى الخطاب الأميركي نظرياً، وإمداد الكيان الغاصب بكلّ ما يضمن تصعيد وحشيّته وجرائمه سواء عبر المليارات التي تكرّر تخصيصها لدعمه بشكل مباشر، أو عبر صفقات الأسلحة التي لم تعد تعرف طريقها للموافقة عليها في الكونغرس، بل ترسل وتصل أولاً ثم يتكرّم «بلينكن» بالحديث عن الظروف الاستثنائية التي اضطرت إدارة البيت الأبيض لإرسالها نظراً للظرف الطارئ المستجدّ الذي يتطلب ذلك.
يبدو أنّ تكرار استخدام الفيتو الأميركي لخنق إرادة مجلس الأمن ومنعه من الاضطلاع بدوره في الحفاظ على الأمن والاستقرار لم يكن كافياً لتكرار اللدغات واللسعات من الأفعى الأميركية والعقرب الصهيونية، فتمّ الإعلان عن تخصيص مليارات جديدة لضمان بقاء الحال كما هو، طالما أنّ العجز عن تحقيق الأهداف الإسرائيلية التي تمّ الإعلان عنها هو المسيطر على مسرح العمليات ـــ ليس فقط داخل غزة ـــ بل وعلى امتداد المنطقة التي اكتسبت مناعة ضدّ أكثر العقارب والأفاعي سميَّةً إلى درجة تخلخلت فيها تلك الأنياب السامة بالتزامن مع انكسارات متعددة المظاهر في الإبر التي تنفث السموم لانهيار مناعة الجسد المقاوم، فتأتي النتائج عكس ما يشتهيه الظلاميون الجدد وزبانيتهم الذين يتبادلون الأدوار والأنخاب بجماجم الأبرياء، ومن حقّ المتابع العادي أن يتساءل: كم مرة تمّ الحديث عن قرب التوصل لاتفاق لهدنة إنسانية مؤقتة؟ وكم مرة تمّ الإعلان فيها عن فشل المساعي بعد إرسال الوفود مرة إلى مصر وأخرى إلى قطر وغيرهما؟ وكم مرة تمّ الحديث عن تفاؤل أميركي بحدوث تبدّل ملموس في موقف تل أبيب، والتطبيل والزمير لموافقة نتنياهو على توسيع صلاحية الوفد الإسرائيلي المكلف بالذهاب إلى هذه العاصمة أو تلك؟ وكم نحتاج إلى استخدام أداة الاستفهام الإنكاري «كم» وبلا نتيجة أو معالم صورة تصلح للبناء عليها لتشكيل قناعة أولية توحي بأنّ الآتي من الأيام قد يكون أقلّ وحشية مما سبقه؟
باختصار شديد يمكن القول: إنّ دروس التاريخ البشري والصراعات الطويلة والمزمنة تؤكد أنّ السقوف المرتفعة من الوحشية لم تثمر عن تحقيق أهداف استراتيجية، وإنْ كانت توحي بإمكانية إحراز تقدّم نسبي على المستوى التكتيكيّ، وسياسة التهويل والتهديد والوعيد عادة ما تفضي إلى نتائج عكسية، كما أنّ العزف على وتر إمكانية خروج الأمور عن السيطرة وتدحرجها نحو حرب شاملة لم تعد تخيف أطراف محور المقاومة، بل على العكس فهذا الأمر يؤكد خشية من يلوّح بخيار كهذا من إمكانية حدوثه، أيّ أنّ تعريض الأكتاف الإسرائيلية أو الأميركية بالإسفنج المضغوط لإخفاء التشوّهات البنيوية لن تكون ذات جدوى قط، سواء جاءت تلك المحاولات مباشرة أو مداورة، مرة باستحضار الأساطيل والبوارج وحاملات الطائرات، ومرة بالمشاركة الفعلية في حماية الكيان والوقوف معه في خوض أي أعمال قتالية، ومرات بتعطيل إرادة المجتمع الدولي عبر قنوات متعددة، وكلّ ذلك لم ينجح ولا يمكن أن ينجح في استعادة الهيبة التي داسها المقاومون بأقدامهم الثابتة. فمخرجات هذه الجولة الجديدة من الصراع تؤكد أنّ الردع المتهاوي والمتآكل في العديد من جوانبه لم يعد قابلاً للترميم، ولن تفلح واشنطن في الاستمرار بسياستها المفضوحة والهادفة إلى إطالة أمد الستاتيكو القائم الذي يعني استمرار شلال الدم الفلسطيني، واستمرار فصول حرب الإبادة الجماعيّة، وإذا ما أخطأ أصحاب الرؤوس الحامية في قراءة لوحات الواقع التي تتبلور تباعاً، وحاولوا تعريض الأكتاف المثقلة بأحمالها سواء بمغامرة داخل القطاع واقتحام رفح، أو بمقامرة ومحاولة الهروب إلى الأمام باتجاه الجنوب اللبناني المسكون برجال إنْ أرادوا أراد الله، فهذا يقود إلى نتيجة واحدة تتكشف فيها أكثر فأكثر هشاشة تلك الأكتاف وتقوسات العمود الفقري الذي تستند إليه، وتغلّفه بهالةٍ من الطاقة التدميرية التي لا تستطيع منع ارتدادات استخدام تلك الطاقة على من يستخدمها عاجلاً أم آجلاً.

*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى