نقاط على الحروف

كلام بحجم المرحلة للرئيس بشار الأسد

ناصر قنديل
– في كلمته أمام اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي قدّم الرئيس بشار الأسد مقاربات متميّزة نوعية لكثير من القضايا الفكرية الراهنة التي تتّسم بالطابع التأسيسيّ في عمل الأحزاب وجدول أعمال أيّ وطن أو دولة، خصوصاً في منطقتنا، فشرح بالتفصيل ثنائيّة العروبة والإسلام، وكيف تجمع العروبة بين العرب كمكون وسائر المكونات، وثنائية العروبة واللغة العربية، بما يستحق القراءة بتمعّن، وشرح بدقة ثنائية الاشتراكية بمفهوم العدالة والانحياز للفقراء والنمو الاقتصادي وحاجات التنمية، مخصصاً وقتاً وجهداً لتكريس دور القطاع العام ضمن مفهوم الإنتاجية، ومفهوم الدعم تحت سقف الجدوى ومكافحة الفساد، وعن مكافحة الفساد أطروحة مفصلة لمعالجة الجذور بدل ملاحقة الظواهر والنتائج، وصولاً لإعادة تعريف علاقة مفهوم القيادة والعلاقة بين الحزب والدولة. وفي كل من هذه العناوين ما يستحق وحده التحليل والاستنتاج والتوقف، لكن في الكلمة أربع محطات لافتة بصورة استثنائية لا بد من الإضاءة عليها.
– قدّم الرئيس الأسد مطالعة مليئة بالحجج القوية لتدعيم فكرة الحزب العقائدي، رداً على نظريات العولمة والزعامة الأميركية للعام منذ ثلاثة عقود عن زوال زمن العقائد، فقال إن «أخطر ما يواجه الوطن هو الحروب العقائدية كالنازية الجديدة، كالليبرالية الحديثة، كالتطرف الديني. وهذه الحروب العقائدية لا يمكن أن نواجهها إلا بفكر وبعقيدة، حتى الحرب الاقتصادية، حتى الحرب الإرهابية، ليس بالضرورة أن يكون الهدف هو الجوع بالاقتصاد أو القتل بالإرهاب، وإنما الهدف الوصول إلى ثقافة اليأس التي تتحول مع الزمن ومع التراكم إلى عقيدة أو ما يشبه العقيدة التي تحلّ محل العقائد الأخرى، تحل محل المبادئ، وبالتالي تدفع باتجاه التنازل عن الحقوق، لذلك في ظل هذه الظروف، وأنا لا أقصد تحديداً ظروف سورية وإنما الظروف العالمية التي يشهد كل العالم فيها حروباً ذات طابع ثقافيّ وعقائديّ تصبح الأحزاب العقائدية أكثر أهمية بكثير من قبل، وليس كما كان يسوّق منذ ثلاثة عقود بأن عصر الأيديولوجيات قد انتهى وأن عصر الأحزاب العقائدية قد انتهى. هذا الكلام غير صحيح، نحن نعيش أعلى مرحلة أيديولوجية على مستوى العالم لأن التطرف هو عقيدة، لأن الليبرالية الحديثة هي عقيدة، لأن الخنوع الذي يدعو إليه الغرب تحت عناوين مختلفة هو عقيدة، فإذاً دور الأحزاب العقائدية وفي مقدمتها حزب البعث في سورية تحديداً هو اليوم أكثر أهميّة مما سبق خلال كل المراحل التي مرّت بها سورية».
– في قراءته لموقع حرب غزة الاستثنائي في صناعة الوعي، توقف الرئيس بشار الأسد أمام حقائق كشفتها هذه الحرب عندما لعبت دور المرآة الكاشفة لحقائق مسكوت عليها، فقال لقد «فضحت الحرب على غزة حقيقة الكثير من الأنظمة، وميزت بين المواقف الحقيقية والشكلية، وميزت الصادق من المنافق، وجعلت الموقف من القضية الفلسطينية هو المرجع في تقييم تلك المواقف. فالموقف من القضية الفلسطينية هو اليوم الذي يرفع أشخاصاً ودولاً، وهو الذي يهزّ العروش، وأهم أنموذج نراه اليوم هو الأنموذج التركي». ثم استخدم مرآة غزة الكاشفة للتعريف بما أصاب ثقافة الاقتداء بالغرب الى حد العبودية المشبعة بعقد النقص، فقال إن «الحرب على غزة فضحت دعاة الاقتداء بالغرب في عالمنا العربي وفي سورية، الغرب بحريته وديمقراطيته، الغرب بقيمه العظيمة الرائعة وحضارته وإنسانيّته ومدنيته، أولئك الأشخاص الذين يحملون في عقولهم أقصى ما يمكن لإنسان أن يحمل من عقد نقص ودونيّة تجاه الأجنبي، لم نسمع هؤلاء يتحدثون أو ينظّرون حول موقف الغرب من الحرب على غزة، موقف الغرب الداعم لـ «إسرائيل» سياسياً، مشاركة القوات العسكرية والأمنية الغربية بشكل مباشر في الحرب، إرسال السلاح لـ «إسرائيل»، لم نسمع أي كلمة أو تصريح أو ملاحظة، لم نسمع عن الديمقراطية المتعلقة بقمع الطلاب في الجامعات الأميركية وغيرها بالرغم من أنها كلها كانت تحت سلطة القانون أي متوافقة مع الدستور والقانون، لم نسمع أي شيء عما يطرح الآن في الكونغرس الأميركي بالنسبة لتوسيع مفهوم السامية، وبالتالي يمنع على أيّ شخص انتقاد «إسرائيل» كدولة كما يفترضون، أو الحديث عن الهولوكوست أو أي شيء آخر يمسّ هذه المفاهيم».
– في مقاربة مدهشة لمخاطبة بعض مروّجي دعوات الانهزام للشعب السوري بداعي الظروف الاقتصادية الصعبة وحجم التضحيات، والذين بدأت تظهر من بين صفوف بعضهم درجة من الوقاحة في الظهور الاعلامي، وأحياناً من منابر او فضاءات تحسب على الدولة أو قريبة منها، يقدّم الرئيس الأسد درساً نظرياً بالغ المعاني وعميق الأبعاد، فيقول لهؤلاء، «لكن أهم الدروس التي تقدمها غزة هي الدرسان الفلسطيني واليمني، حيث قدّما دروساً للعرب بشكل عام وللسوريين بشكل خاص، لماذا للسوريين بشكل خاص؟ لأن مبادئ الحرب متشابهة، قتل، إرهاب، حصار، تدمير، وغير ذلك من المعاناة التي نراها في هذه الدول الثلاث، لكن كلنا نعرف بأن الوضع في فلسطين لا يقارن بسورية، وأيضاً الوضع في اليمن لا يقارن بسورية، أوضاع الفلسطيني واليمني أصعب بكثير من أوضاعنا بكل المعاني والأوجه، مع ذلك فقد قدموا دروساً في العزة والكرامة، في الشهامة والإرادة، وفي حب الوطن، وهذه العناصر وحدها من دون وجود إمكانيات حقيقية حوّلت اليمن وغزة، وإذا أردنا أن نقول فلسطين بشكل عام، ليس إلى قوة إقليمية بل إلى قوة عالمية حقيقيّة فرضت نفسها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، تمكّنوا من ذلك لأن فكر العمالة لم ينتشر، ولأن عقيدة الهزيمة لم تزدهر عندهم».
– يختم الرئيس الأسد كلمته بما يفترض أنه يشكل خلاصة الموقف وثوابته، فيتناول مفاهيم الاستقلال والسيادة والقوة والمقاومة، باعتبارها عناوين لا تتغير في سورية، فيقول «لا شيء يبدل موقفنا أو يزيحه مقدار شعرة، وكل ما يمكن لنا أن نقدّمه ضمن إمكانياتنا للفلسطينيين أو لأي مقاوم ضد الكيان الصهيوني سنقوم به دون أي تردد، وموقفنا من المقاومة وتموضعنا بالنسبة لها كمفهوم أو كممارسة لن يتبدل، بالعكس هو يزداد رسوخاً، لأن الأحداث أثبتت أن مَن لا يمتلك قراره لا أمل له بالمستقبل، ومن لا يمتلك القوة لا قيمة له في هذا العالم، ومن لا يقاوم دفاعاً عن الوطن فلا يستحق وطناً بالأساس. فالخضوع يعطي شعوراً كاذباً بالأمان، وربما بالقوة وأحياناً بالوجود أو بالكينونة، لكن إلى حين، إلى حين ينتهي هذا الدور وتنتهي المهمة المطلوبة، ليتمّ بعدها الاستغناء عن الأشخاص وعن الدول وعن الأوطان، وعندما يتم الاستغناء عن الأوطان فهذا يعني دمارها وزوالها».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى