الحزب القومي… مدرسة الأحرار النبلاء
رفقاء شقيقي الشهيد من الحزب السوري القومي الاجتماعي زاروا بيوت القرية بيتاً بيتاً وأنا وعدد من الصبية نتنقل معهم كجوقة مؤيّدين ومعجبين بهم وبرجولتهم وطلبوا من أبناء القرية الصمود فيها
عدنان الصباح*
*كاتب وباحث ـ برقين ـ فلسطين
تمرّ هذه الأيام ذكرى استشهاد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده، أحد أهمّ فلاسفة العصر، والذي استشرف باكراً ما يتهدّد مستقبل شعبه وأمته.
على الصعيد الشخصيّ لي ذكريات محبّبة هي جزء حي من حياتي، وددتُ أن أشارك أبناء مدرسة سعاده بها، تحية له في ذكرى استشهاده، وتقديراً لفلسفة لم تأخذ حقها في الفكر الإنساني حتى اللحظة، عنيت فلسفة “المدرحية” والتي يقول عنها “إنّ النظام الجديد للعالم لا يمكن أن يقوم على قاعدة الحرب الدائمة بين الروح والمادة ـ بين المبدأ الروحي والمبدأ المادي، بين نفي الروح المادة ونفي المادة الروح، بل على قاعدة التفاعل الروحيّ ـ الماديّ تفاعلاً متجانساً على ضرورة المادة للروح وضرورة الروح للمادة، على أساس ماديّ ـ روحيّ يجمع ناحيتي الحياة الاجتماعية “.
أشعر بامتنان شديد لصديقي الأستاذ سعادة مصطفى أرشيد الذي حدّثني عن ذكرى استشهاد مؤسس الحزب وأعادني إلى ذكرياتي عن الحزب والقوميين. وهو ابن الأمين الراحل مصطفى أرشيد ـ إبن جنين ـ والذي قاد الحزب في مرحلة من أصعب مراحل النضال والسياسة في منطقتنا والذي له الفضل في دفعي لقراءة فلسفة سعاده التي اكتشفتُ فيها ما أكنت أبحث عنه لسنوات، وكانت في صلب كتاباتي حين شرعتُ بنشر سلسلة مقالات بعنوان “ثورة الروح ضد ثروة القتل”، قبل أن تعصف ببلادي فلسطين هذه الحرب الإبادية منذ ثمانية أشهر.
أما عن ذكرياتي عن رفقاء المؤسس أنطون سعاده، وخصوصاً الأمين الراحل مصطفى أرشيد، فلم يترك والداي لي فرصة الانتباه الى طفولتي ولا بأي حال من الاحوال، الطفولة كانت محرّمة في بيتنا بسبب شقيقي الشهيد محمد الصباح الذي ارتقى في معركة المزار عام 1948، فوالدي ووالدتي صارا يحاسبوننا على كلّ عمل أو حركة، مقارنة باستشهاد شقيقنا، وحتى شكلاً فعيوننا ووجوهنا وأجسادنا تقاس بالشهيد وطبعاً لم يكن بإمكان أيٍّ منّا أن يدّعي أنّ عينيه مثلاً أجمل أو أن شعره أجمل، فقد كان الشهيد مسطرة الجمال وكلّ ما عداه يقع في الأسفل.
حين خرجت الى الشارع تعرّفت على الشهيد الحيّ “سمبو” رحمه الله، ولست أذكر اسماً له غير ذلك، فصرتُ من أصدقائه المقرّبين، أجلس بجانبه وهو يعمل على بسطة لتصليح بوابير الكاز، يجلس على كرسيّ القش الذي صنعه بيديه ويمدّ ساقه المصابة في الزقاق ويضطرّ الجميع أن يمرّ من فوقها دون أن يحتجّ أحد فقد أصيب في معركة المزار، وحين سألته عن ساقه قال لي: هذا وسامي من معركة عام 1948 حين عشتُ بسبب الشهيد (يقصد أخي محمد). وفهمتُ منه أنه كان ينتقل من خندق الى خندق حين أصيب فهبّ أخي لنجدته وتمكّن من جرّه الى الخندق وقبل أن ينزل بجسده الى الخندق خلف “سمبو” عاجلته طلقة من الأعداء ليرتقي شهيداً.
لم أفرح برواية “سمبو” وحين عدتُ إلى البيت بكيتُ بحرقة إلى أن اكتشفت والدتي رحمها الله بكائي وأخذتني الى والدي يسألني عن سبب البكاء، فأبلغته أنّ “سمبو” قتل أخي، فضحك والدي رحمه الله طويلاً وطبطب على ظهري قائلاً: بالعكس يا ولدي “سمبو” منح شقيقك الشهادة والشرف فقد ضحّى بنفسه لينقذه، وعليك أن تعتز بشقيقك وبـ “سمبو”. ومع أني قبلت إجابة أبي إلا أنني لم أجد سبباً مقنعاً لأقبل بغياب أخي لأجل أن يعيش “سمبو” الى ان تعرّفت على “سمبو” ورفقاء أخي، ففهمت ما كان يقصدُه أبي ولماذا فعل أخي ما فعل.
ذات يوم قال لي والدي: سيأتي إلينا ضيوف هم رفقاء الشهيد وسيجلسون في غرفته، عليك أن تخليها وأن تبقى قريباً منهم لتقوم على خدمتهم. ولم يفهمني سبب الحضور ولا مَن هم هؤلاء الذين سيأتون إلى بيتنا ولا سبب اهتمام والدي بهم وبحضورهم إلى أن جاؤوا شباناً يافعين ومعهم “سمبو” مهندماً على غير عادته. قبّلوا يد والدي ووالدتي وانتقلوا إلى غرفة الشهيد التي كنت أشغلها. وبعد أن أحضرت لهم الشاي جلست بجانب الباب أستمع لهم ولم يطردوني بل ناداني المرحوم الأستاذ “سامي مساد” وأجلسني بجانبه. وحين بدأ الأستاذ كلامه فهمت أنهم يحيون ذكرى استشهاد أخي محمد، ثم بدأوا بأحاديث لم أفهمها وكثيراً ما كان يُذكر اسم سورية. وحين حضر والداي في نهاية لقائهم سألوا والدي سؤالاً أوْقع بينه وبين والدتي وسمعتهم يختلفون عن قوميّة العربي أو الشامي، فبينما أصرّ والدي أننا عرب أصرّت والدتي أننا “سوريون” أو بتعبيرها “شوام”. ووجدتُ “سمبو” يهتف لأمي ويفعل الآخرون ذلك، ففهمت أنّ الجماعة كانوا من الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا يمكن أن أنسى أنهم كانوا من خيرة مَن في القرية وظلّ الأحياء منهم حريصين على زيارة بيت الشهيد رغم ناصرية والدي وخلافهم مع عمّي اليساري الشاعر الذي كان يسكن في حوش البيت نفسه وأخي “محمود” التحريري الذي كان على خلاف دائم مع والدي ووالدتي، ويعلن أنه لا يحبّ أصحاب الشهيد، ولكنه يحترمهم، ولا يحبّ جماعة عمي لأنهم كفار، ولا يحب الاخوان المسلمين، وضربني ذات مرّة بشدّة لم أنسها حتى يومي هذا، حين اكتشف ذات يوم أنني ذهبت وآخرين من الصبية مشياً الى المدينة خلف الشيخ عبدالله عزام.
هذا هو البيت الذي عرفت عماده الأجمل في حياتي، فشقيقي الشهيد محمد الصباح كان سورياً قومياً اجتماعياً، وهو كان سبباً في علاقتي منذ الطفولة بمناضلين حقيقيّين ظلوا جميعهم حتى رحلوا، رحمهم الله، أوفياء لذكرى شهيدهم وهم احتراماً لذكراهم الأستاذ سامي مساد والأستاذ علي قاش والأستاذ رجا قحاز والمزارع صبحي الحاج ياسين (أبو وضاح) صاحب أكبر ابتسامة وشقيقه أكثر أهل القرية أناقة وخلقاً وأدباً (أبو عدنان) و”سمبو” الرجل الشعبي وصاحب الوسام ومعهم كان والدي الذي بدأ حياته مع العربية الفتاة وانتهى ناصرياً إلى أن توفاه الله رافضاً أيّ نقد يوجه لعبد الناصر وأمي الشامية على حدّ تعبيرها احتراماً للشهيد وعمّي اليساري الشاعر وأخي التحريري وأخي رقم 3 الذي ذهب الى الجيش العربي الأردني منذ نعومة أظفاره لينتقم للشهيد وحمل هو أيضاً وساماً بإصابته في معارك باب الواد عام 1967م. وهذه التوليفة الجميلة المختلفة كانت دوماً موحّدة تحت لافتة الشهيد، ولذا يظلّ سؤالي أين لافتة الشهيد اليوم ولمَ لا توحد قوافل عشرات الآلاف من الشهداء كلّ الخلافات وتدفنها تحت راياتهم؟
بعد هزيمة عام 1967 بدأ الناس يفكّرون بالنزوح وقد نزحت أعداد كبيرة الى الضفة الشرقية لنهر الأردن إلا قريتنا. ويعود الفضل بذلك إلى تلك المجموعة رفقاء الشهيد من الحزب السوري القومي الاجتماعي الذين زاروا بيوت القرية بيتاً بيتاً وأنا وعدد من الصبية نتنقل معهم كجوقة مؤيّدين ومعجبين بهم وبرجولتهم. وفي كلّ بيت زاروه قالوا بفم واحد حين تروننا راحلين اتبعونا ولم يغادر برقين أحد على الإطلاق.
انتقل الأستاذ سامي مساد الى جنين بسبب من وظيفته وظللت على تواصل معه الى أن توفاه الله، اما الأستاذ علي قاش (ابو الأمين) فقد أصبح معلمي ومع أنه كان قاسياً حدّ العسكرية ولا يعرف المزاح إلا أنني كنت أحظى بمزاحه القليل واعتبرني زملائي محظوظاً، لأنه لا يبتسم إلا حين أتحدّث. والتقيت بالأستاذ رجا في الجامعة في بيروت حين كان يأتي لتقديم الامتحانات للحصول على درجة البكالوريوس فينزل ضيفاً عندي طول إقامته القصيرة الى ان ارتكبت خطأ ذات يوم وقلت أمامه كلمة تناقض كل معتقداته ومعتقداتي. وكان الوقت بعد منتصف الليل فخرج من البيت غاضباً دون أن يكون لديه مكان يذهب اليه وذهبت كلّ اعتذاراتي ومحاولاتي أدراج الرياح إلى أن طلع النهار وغادر ولم أره بعدها الى أن خرجت من المعتقل الصهيونيّ بعد سبع سنوات فجاء من باب الوفاء للسلام عليّ وحين فاجأته طالباً الاعتذار حضنني وبكى قائلاً: لأنك لم تنسَ خطأك وإحساسك به طوال هذه المدة فأنا أسامحك.
هؤلاء النبلاء رحلوا الواحد تلو الآخر ويؤسفني القول إن النبل رحل معهم، بل والأناقة والخلق والالتزام فلم يذكر عن أيّ منهم سيرة تمسّ خلقه. وقد ظلوا حتى وفاتهم جميعاً أصحاب سيرة وخلق وسلوك لا تشوبه شائبة وظلوا يحظون بمحبة واحترام كل ّالناس فلا يذكرهم أحد على الإطلاق إلا بالخير ولم يُعرف عنهم إلا الصدق والالتزام كلّ في حياته وعمله وأسرته.
وكلما ذكرت تلك المرحلة ترحّمت على كلّ من قاتلوا يوماً مؤمنين بمبادئهم واحترموا إيمان الآخرين واصطفوا معاً تحت راية الوطن موحّداً موحّدين في سبيل حريتهم وتحرير أرضهم. فالأحرار وحدهم من يحرّرون الوطن وليس العكس، فالأوطان حتى لو استقلت لن تصبح حرة دون أحرارها.