المشهد الاقليمي والدولي والمتغيّرات السورية التركية
د. حسن مرهج*
رياح إقليمية ودولية تداعب دمشق. هو وصف وإنْ بدا رومانسياً، إلا أنه واقع سياسي يجب قراءته في عنوان واحد، يتجلى بأنّ دمشق تعدّ العدة للعودة إلى موقعها الاقليمي والدولي، ليس من بوابة انتصارها على أعدائها، بل من بوابة حاجة الجميع إلى دمشق والتي تملك قدرة توفيقية بين أطراف القوى التي تنشط في الإقليم عموماً.
وبعيداً عن الأمنيات، فإنّ قراءة الواقع السياسي الحالي في سورية، يوحي أو يكاد بأنّ هناك حلولاً جاهزة ويجب تطبيقها، وهنا لا نتحدث عن مبادرات عربية أو القرار الأممي 2254، بل ثمة ما هو أعمق وأدق سياسياً، بمعنى أنّ الواقع الإقليمي والدولي لن تتوضح عناوينه دون دمشق، ولن تثمر التوافقات واقعاً سياسياً واقتصادياً مستقراً دون استقرار دمشق، من هنا فإنّ الورقة المتعلقة بسورية التي أطلقتها مجموعة دول أوروبية مؤخراً، وكذلك تعيين سفير إيطالي في سورية بعد انقطاع طويل، تؤكد بأنّ الجميع يبحث عن حلّ للأزمة السورية التي طال أمدها، والجميع أيضاً أدركوا بأنّ الإبتعاد عن دمشق في هذه المرحلة قد يحرمهم من النفوذ ويُقصيهم من نطاق المصالح
الورقة السابقة وتوقيتها وعودة السفير الإيطالي إلى دمشق، فإنّ ذلك لا يعني الفرح والأهازيج بما سبق، بل ثمة لحظة وعي سياسي يجب قراءتها بدقة، تتعلق بمفرزات الحرب على سورية، فقد طفا على سطح هذه الحرب أزمة اللاجئين الذين غزوا أوروبا وباتوا عبئاً على دول اللجوء، كما أنّ الارهاب الذي تحاربه سورية وإنْ بدا أن توهّجه آخذ بالذبول، إلا أنه قابل للحياة طالما الولايات المتحدة تمدّه بأسبابها، وقد يصل إلى القارة العجوز، وهو وصل فعلاً في مناسبات عديدة لا مجال لذكرها الآن.
إذاً جملة التحوّلات والتطورات في سياق الملف السوري لا ينبغي الفرح بها كثيراً، ولا ينبغي أيضاً النظر إليها على أنها انتصار لـ دمشق، والأولى السؤال التالي، ماذا يريد الغرب من سورية؟ وإلى ماذا يرمي أردوغان من طرق أبواب دمشق مُجدّداً وتصريحاته بأنه يرغب في لقاء الرئيس الأسد؟
الإجابة تكمن في معطيين، الأول بأنّ الدول الأوروبية تبحث عن نفوذ جديد في سورية يقصي روسيا وإيران من الدائرة السورية، وكذلك فإنّ الحديث عن سورية يُثير شهية المقاولين الأوروبيين حيال إعادة الإعمار، وبالتأكيد يجب التنسيق مع دمشق في تلك المسائل، وعلى رأسها البحث في أزمة اللاجئين.
المعطى الثاني يتعلق بأردوغان المرهق سياسياً واقتصادياً، ويبحث عن ضالته في سورية، ورغم خباثته ومناوراته إلا أنّ حيَله لن تنطلي على الأسد، ويكفي النظر إلى الجغرافية السورية لإدراك حجم الإرهاب التركي، وبالتالي فإنّ أردوغان يبحث عن من يشرّع له إرهابه، ويا للغباء السياسي، فأردوغان مُحتلّ للجغرافية السورية ويريد اللقاء بالأسد، لشرعنة إحتلاله!
تكمن الحقيقة في مكانٍ آخر، فالرغبات الأوروبية والأردوغانية بطرق أبواب دمشق، إنما تأتي في إطار البحث عن زيادة النفوذ السياسي في سورية، وهذا ما يكشف في سياق آخر حقيقة تراجع الوزن الأوروبي والغربي والتركيز عموماً في سورية، وهذه المواقف الجديدة بهذا المعنى، هي محاولة للدخول من الشباك بعد أن تم إغلاق الباب.
الشباك الذي تريد القوى الغربية وأردوغان الدخول منه، هو شباك تغيير سلوك الأسد، عبر خطوة مقابل خطوة؛ وجوهر هذه العملية هو محاولة نسف 2254، والذهاب نحو تعميق الأزمة وإطالتها وتكريس تقسيم الأمر الواقع. وأكثر من ذلك، فإنّ التوقيت يكشف عن سعيٍ غربي محموم لمحاولة قطع الطريق على التسوية السورية ـ التركية، وعلى عمل أستانا باتجاه الحلّ السياسي وباتجاه تطبيق 2254، عبر محاولة إحداث توازنٍ هدفه تصفير المحصلة، وإبقاء الواقع القائم على حاله، والسماح له بمزيد من التردي والتدهور.
رغم هذه المحاولات، فإنّ الوقائع أشياء عنيدة، ولا تنفع معها مساحيق التجميل الأوروبية والأردوغانية؛ فالوزن الغربي، ليس في سورية فقط، بل وفي العالم بأسره، هو في تراجع متسارعٍ ومستمر، وعلى المستويات كلها: الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، وكذلك أردوغان.
ختاماً. وزن دمشق يفوق بأضعاف وزن أوروبا وأردوغان، ولن يتمكن أحد من تسلق أسوار دمشق، وليتذكر الأوروبيون وأردوغان وأجداده العثمانيون، بأن دمشق لا أحد يستطع الدخول إليها إلا وفق شروطها. صحيح أنّ سورية والسوريين في معاناة سياسية واقتصادية واضحة، لكن الصحيح أيضاً بأنّ أيّ حلّ سياسي لن يُكتب له النجاح بعيداً عن سورية والسوريين، وكلّ المحاولات الأوروبية والأردوغانية للتسلق والوصول إلى دمشق، فإنّ هناك فاتورة سياسية يجب تسديد ثمنها، فـ أربعة عشر عاماً كشفت حجم وعدد الأنياب المتربصة بالدور السوري والجغرافية السورية والسوريين أنفسهم، ولا حلّ إلا من خلال كلمة السوريين أنفسهم، لأنّ سياساتكم قديمة، ويبدو واضحاً أنّ الأوروربين وحتى أردوغان يحركهم الأميركي، بغية إطالة أمد الأزمة ومعاناة السوريين، وبصراحة نقول للأوروبيين وأردوغان «ألعبوا غيرها».
*خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية