حديث الجمعة

حديث الجمعة

ناصر قنديل
كلّ يوم جمعة، ستكون هذه الصفحة مسرحاً مشتركاً بيني وبين القرّاء، في محاولة لتقديم مادة صحافية وثقافية وسياسية، تتناسب مع المحاولة التي تسعى «البناء» من خلالها إلى احتلال أوسع مساحة متاحة من الوقت الذي يخصّصه القارئ لصحيفته المفضّلة، لنحوز بعيون قرائنا هذه الصفة، وهو مسعى لا يتوقف عن ابتكار الجديد والتنافس مع الذات، والتفوّق على ما نتج أمس، ليكون اليوم أفضل، والغد أفضل من اليوم.
أعلم أنّ الالتزام بصفحة أسبوعية يستحقّ وحده التفرّغ على مدار الأسبوع، لكنّني في مسيرة التفوّق على الذات، سأحاول ألّا يكون التزامي بأعمال ومسؤوليات وكتابات أخرى في «البناء» خصوصاً، وخارجها من أنشطة إعلامية لشبكة «توب نيوز» بشكل رئيسي، حائلاً دون إعطاء الأفضل ممّا أختزن وأرغب في وضعه بين أيدي القرّاء، وكما في «البناء» في شبكة «توب نيوز»، التي يشرّفني ترؤسها كمشروع فريد في العالم العربي وربما في العالم لشبكة يقوم بأعمالها متطوّعون عرب من أنحاء العالم في بلدانهم والمغتربات، من الذين تجمعهم المقاومة وحبّها والعمل لوحدة بلادنا والتصدّي للهيمنة الغربية بأشكالها المتعدّدة، وأفخر بما أنجزته الشبكة من نجاحات، خصوصاً في مواجهة الحرب الإعلامية على سورية والمقاومة، وتحوّلها إلى منبر دخل بيوت الناس، وأحبّوها وتفاعلوا معها كقناة تلفزيونية شعبية متواضعة وبسيطة ومتميّزة، بصوت السيدة فيروز والقيم المضافة التي تحرص على تقديمها في الرؤى والتحليلات.
أعطي «البناء» اليوم ضُعف ما أعطيه لـ«توب نيوز»، عملاً بمبدأ أحبّ أبنائي إلى قلبي صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يشفى، وغائبهم حتى يعود، و«البناء» بقياس علاقة العمر بالمنبر، تكون الأصغر حتى يكبر ونكبر به ومعه.
هذه الصفحة ستتّضمّن مع المقدّمة الأسبوعية، مجموعة أبواب تتوزّع بين عرضٍ لأبرز الأحداث التي عاشها الأسبوع، ومحاولة قراءة خلفياتها وأبعادها وتداعياتها بلا إطالة، على طريقة المختصر المفيد وتحت هذا العنوان. ومجموعة من الأبواب السريعة الرشيقة غير الثابتة والمتغيّرة من مرّة إلى أخرى بحسب المقتضى، والحاضر في الذاكرة، أو المتداعي من حوار أو حدث.

مختصر مفيد
الحرب التي تعيشها سورية لا تقاس بالسؤال إلى متى، بل إلى أين. فـ«إلى متى»، هو السؤال الذي يطرحه الواقفون على ضفة الهزيمة، لأنه يخفي هزيمتهم بالاستنتاج المنطقي لسؤالهم، أنّه كفى، فيصير الانهزام فضيلة بذريعة التخفيف على الناس من معاناتهم، ومن السائل ومن المجيب؟ هما من صنع المعاناة والمأساة، لكنه في وقت الهزيمة يخترع لها مصطلحاتها، من شعار الانسحاب التكتيكي إلى شعار نهائي، ليس المهمّ من ينتصر اليوم، فكلّنا مهزومون لأنّ البلد والناس من يدفعون الثمن، والسؤال لماذا لم يكن هذا الحنان على البلد والناس يوم كانت في يدهم المبادرة، والحرب تميل كفّتها لمصلحتهم، أما سؤال «إلى أين»، فهو السؤال الجدّي الذي يطرحه أصحاب القضية سواء كانوا في حال نصر أو هزيمة، لأنه سؤال العلم الذي يجمع الفيزياء والكيمياء بالسياسة، حيث يصير وقت استهلاك التحوّل تفصيلاً من صفاته، لا العنوان الأبرز فيه. وعبر سؤال «إلى أين»، نستيطع أن نرسم البانوراما التي ترينا المشهد وخلفياته.

يرحل الأخضر الإبراهيمي وهو صاحب مهمة لا رسول سلام، فشل في المهمة أو صار تحقيقها مستحيلاً فيرحل، كما تنسحب الأساطيل، لا داعية خير فشل في مسعاه فيئس وقرّر الرحيل حزيناً على الضحايا والخراب. يرحل الإبراهيمي بعد تلويحه بالرحيل منذ رحلت الأساطيل وبدأت علامات الفشل تلاحق مهمته، فتبدّلت المهمة من استثمار الضغطين العسكري والسياسي لإملاء شروط الاستسلام والرحيل على الرئيس بشار الأسد، إلى استثمار فتح باب العملية السياسية في جنيف لإجهاض الانتخابات الرئاسية. ولمّا فشل الإبراهيمي في الإثنتين، وصارت تسوية حمص علامة النهاية العسكرية المحتمة، وبدت الانتخابات الرئاسية آتية لا ريب فيها، رحل الإبراهيمي. وعندما يصير الحسم الدستوري ملاقياً الحسم العسكري، يصير المطلوب مهمة دبلوماسية من بوابة سورية لاختطاف الاستحقاق الرئاسي اللبناني قبل أن تسترد عافيتها لتسترد دورها.

الاستحقاق الرئاسي اللبناني بعض من معادلات المنطقة الحساسة، لأنّ الرئيس قادر على التحوّل إلى شوكة مزعجة في خاصرة المقاومة، أو مصدراً للتكامل معها، أو مجرّد شرطي سير للخلافات حولها، أو رجلاً لكلّ ميزان قوى شعار ومهمة. وبمقدار اهتمام الدول الغربية والعربية بأمن «إسرائيل»، فهي معنية بهوية الرئيس ونظرته إلى المقاومة. من هنا يحسم الجواب على مستقبل الاستحقاق، ما لم يقع تفاهم كبير واستراتيجي لا يبدو في الأفق، لا يبقى فيه للمقاومة وتعامل الرئاسة معها ما لها اليوم. لن يكون العالم الخارجي حيادياً تجاه هوية الرئيس العتيد إقليمياً، وسيبقى الميل إلى رئيس قادر وقابل ومقدور عليه لمهمة محددة هي تدوير الزوايا، وسيبقى العائق المسيحي اللبناني بالإصرار على رئيس من وزن المرشحين الزعماء مقابل الرغبة الخارجية برئيس ينقصه اللون الواضح، سبباً كافياً لبقاء الفراغ، ولذلك على اللبنانيين المؤمنين بمواصفاتٍ وصفاتٍ لرئيس بلادهم، أن يقولوا: «نحن لا نخشى الفراغ».

المعادلة الدولية تبدو بعيدة عن صنع تسويات شاملة لتكون منطقتنا جزءاً منها، إذ يصير التعايش مع الفشل أقلّ إحراجاً من منح الشرعية لنصر الخصوم. وهذا يعني بين روسيا وأميركا في أوكرانيا وسورية مواصلة الاشتباك، ويعني في أفغانستان مواصلة التعاون، وفي الساحة الاقتصادية اختبار عضّ الأصابع، وفي الملف النووي الإيراني الإسراع في الحلول، وفي المفاوضات الفلسطينية ـ «الإسرائيلية» إدارة الفشل، وفي التعاون الاستخباري تبادلاً مكثّفاً للمعلومات.

كلام رياضيات
الشوق والغضب يقعان في منطقة واحدة من الدماغ، لكن حسّاسات تلقي إشعارات الشوق تختبئ تحت حسّاسات تلقي إشارات الغضب، لذلك كثيراً ما يقع الذين يصابون بالشوق وترتفع معدلات انفعالهم به إلى التعبير الخاطئ، عندما ينتهي تعب الإنتظار ويلتقون غائبهم ومحور أشواقهم فلا يلبثون خلال ثوانٍ محدودة الدخول من دون سبب في موجة غضب، ولأسباب تافهة وأعذار سخيفة، وعندما يندمون لا يجدون تفسيراً لاشتباك ناريّ من دون مبرّر يستحق، وعندما يكون الشوق متبادلاً تكون حرارة الانفعال المتبادلة والالتباس بين الشوق والغضب متبادلاً فيقع ما هو أسوأ.

التوقع هو إكمال خطوط افتراضية للأحداث المتتالية التي ترسم جزءاً أساسياً من الخطوط نفسها، ومحاولة استكشاف نقاط تلاقيها ومنحها توقيتاً مناسباً وسياقاً تقريبياً ممّا تقوله مواصفات المسار التي تتناسب مع الراهن بقياس التغيير المرتقب. والتنبؤ هو ادّعاء فارغ بلا منطق، وغالباً ما يكون سرقة لتوقّع وإضفاء لسحر الغيب عليه وهالة العجائبية في سرّ الاكتشاف، فكذب المنجمون ولو صدقوا. وفي بعضهم قيل إنّ ألسنتهم أطول مدى في المعرفة من عقولهم، لأنهم يحفظون بألسنتهم بعض جميل التوقعات ويحوّلونه خداعاً إلى صفة التنبؤات.

إذا خُيّر المرء بين صداقة تهين كرامته أو يعرف مراميها التي تنتهك خصوصيته وإنسانيته بداعي تسهيل بلوغ هدف أو الوصول إلى منصب، مكتفياً بإقناع نفسه أنّ المهم يتمثّل في أنّه لن يحقّق لمن يصفه بالصديق مبتغاه، وسيحفظ لنفسه حقّ التلاعب بالزمان والمكان، وبين صداقة تحفظ كرامته ولا تفيده في شيء إلّا حُسن السيرة وتبادل المعارف ورفع سويّة تذوّق الجمال، في الفكر والأدب والطعام والشراب والملبس والموسيقى، واختار الأولى فهو سيكون وزيراً أو مديراً أو تاجراً. وإذا اختار الثانية فسيكون فيلسوفاً أو مجرّد اسم في عالم النسيان.

حدث معي
دخلت على رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ودخل علينا الحديث حول سلسلة الرتب والرواتب، وما لها وما عليها وحكاياتها المتشعبة كحكايات «الحيايا»، كما يقول «أهل القرايا» لا «أهل السرايا»، وفجأةً، أراد الرئيس برّي أن يقدّم رؤيته لخلفية الصراع الناشب حول السلسلة، فقام إلى خلف مكتبه وفتح ملفاً وأخرج ورقة وأخذ يقرأ: «لا يمكن لبلدنا أن يستمرّ على طريقة اقتصادنا الحالية… الناس يخرجون في الشوارع ويرون السلع التي يريدون شراءها أمامهم ولا يستطيعون نيلها… التفاوت بين الطبقات يتّسع ويكبر… لا بدّ من إصلاحات جذرية لاقتصادنا تعيد له التوازن، وإلا افتقد الاقتصاد أمنه وأمانه». ونظر الرئيس برّي إلى تقاسيم وجهي التي بدت عليها الدهشة بنظرة انتظار أن أكتشف صاحب الكلام، وهو يتوقع طبعاً اسماً معيناً يبدو أنني أصبت فيه التوقع، فقلت: «الإمام موسى الصدر»، فتبسّم بنشوة المنتصر الذي قبض على خصمه ونجح فخه في استدراجه، متابعاً: «من حقك أن تقول الإمام الصدر، لكنه الرئيس الأميركي روزفلت، محذّراً من ثورة اجتماعية ينتجها التعالي والاستخفاف بغضب الفقراء، وأنا مؤمن بأننا في وضع مشابه لما وصفه روزفلت، ومؤمن بأنّ علينا أن نفعل ما فعله، وأنا مصمّم على ذلك لأنّ قضية السلم الأهلي أولاً وأخيراً هي قضية سلم اجتماعي، وبغضّ النظر عن كيف ومتى تنتهي السلسلة، أنا مواصل السير على طريق الإصلاح الاقتصادي وبوابته الاصلاح الضرائبي».

قل كلمتك وامشِ
تتميز «البناء» بكثير مما يسميه أهل المهنة بالسبق، فهي أول من تحدث عن رحيل المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي وترشيح خافيير سولانا وميغيل آنخل موراتينوس مكانه، وأوّل من نشر تقريراً عن إقصاء بندر بن سلطان عن موقعه كرئيس للاستخبارات السعودية، وأوّل من علم بعودته للمملكة من دون أيّ دور سياسيّ أو أمنيّ، وأوّل من رسم خارطة حمص وموعد نهايتها، وأوّل من نشر تقارير صفقات السلاح الفرنسية السعودية إلى لبنان وكشف أسرارها، وأوّل من فضح الشقق المستأجرة للاستخبارات الفرنسية في لبنان واستخداماتها، وأوّل من تداول اسم النائب إميل رحمة كمرشّح محتمل لقوى الثامن من آذار، وأوّل من نشر تقريراً عن المفاوضات السرّية بين إيران والسعودية في مسقط عاصمة سلطنة عمان. لكن يمكن أن يبقى من يقول إن «البناء» غير مهنية لمجرّد أنها تصدر عن حزب عقائدي، ونحن نقول إننا سنبقى نواصل أداء أمانة المهنة والحرص على الوفاء للقضية ونحتكم للناس الذين وحدهم الحكم.
بعض الذين يقولون عن مهنية «البناء» الكثير من التعالي المبني على الجهل، سارعوا للاتصال بسنترال «البناء»، طلباً لرقم هاتف زميل نشر تقريراً متفرّداً عن بلد أجنبيّ تحرص استخباراته على متابعة مصدر التقرير، وكيفية تسرّب المعلومات لـ«البناء». وبلغ عدد المتصلين الراغبين بالحصول على هاتف الزميل الشخصي بداعي الإعجاب والرغبة بالتعرّف، أكثر من نصف دزينة من أسماء تباهي بخيارها السيادي، حتى قال السفير الفرنسي في بيروت: «فشل المتعاملون معنا بجلب المعلومة التي نريدها عن تفاصيل صاحب التقرير وكيفية حصوله على المعلومات».

السفير الأميركي في بيروت يحرص على التحقق من زوّاره قبل التحدّث بما يخرج عن مهمته الدبلوماسية، والكلام المنتقى بدقة، وهو مصدوم بكيفية تسرّب ما قاله عن نصر الأسد في حمص في لحظة انفعال، وقيامنا بنشره على الصفحة الأولى.

أحبّهم إلى قلبي
فلسطين هي الأحبّ إلى قلبي، فعبرها أستطيع أن أحبّ كل بلاد العرب وأميّز سورية، لأنّها وحدها دون دول العرب لم توقّع صك العبودية، ولم تقم تحت الطاولة أو فوقها ما أقامه العرب، وشكّلت للمقاومات قلعتها وللممانعة عاصمتها. وعبرها أستطيع أن أرى الأمل في مصر التي ورثت عن جمال عبد الناصر من فلسطين زعامتها، وعبر فلسطين أرى للمقاومة ما هو أبعد من كيانيتها، والأعذار والمغفرة لما يمكن أن يؤخذ عليها في مسيرتها، فنبل المقصد وحده يكفي لتستمد من قداسة القضية قداستها.

عن فلسطين قال الوزير السابق، لكن المفكر الدائم، ميشال إدّة ـ وتخيلوا بالمقابل وزيراً دائماً ومفكراً سابقاً ـ إنّ ممالك بني «إسرائيل» التي تشكل أرض الميعاد في الفكرة الصهيونية لم تقم يوماً على البحر الأبيض المتوسط، بل في جنوب الضفة الغريية وشمالها بِاسم «مملكة إسرائيل» و«مملكة يهودا». لذلك، لا مجال للحديث عن حل سلميّ يطلب تخلياً «إسرائيلياً» عن أرض الميعاد وهي الضفة في العقيدة الصهيوينة، مقابل البقاء في ساحل فلسطين الممتد من حدود لبنان حتى قطاع غزة، وهي منطقة لم تكن يوماً تعني شيئاً في العقيدة الصهيونية.

عن فلسطين أيضاً خيار المقاومة ليس خياراً، فهو في كل بلاد العرب خيار إلا في فلسطين فهو قدر، لأن «إسرائيل» الضعيفة يحكمها التطرّف والخوف من أيّ تنازل يكون مقدّمة زوال نهائي، و«إسرائيل» القوية تتصلب وتريد أن يدفع لها الذين هزموا ثمن نصرها في أيّ سلام.
قالت له
قيل الكثير في الحبّ، فقيل دمعة وابتسامة، وقيل خفق القلب المتسارع، وقيل الشوق والانتظار، لكن الحبّ الذي يمتلئ بهذه المظاهر، لا يكفي لتفسيره بما يحدث معه، كمن يقول الخريف هو تساقط أوراق الأشجار بدلاً من القول في الخريف تتساقط أوراق الأشجار. وفي الحبّ دمع وابتسامة، وفي الحب شوق وانتظار، لكن ما هو الحبّ؟

تقول كاتبة الحبّ أحلام مستغانمي إنّ الحبّ ذكاء المسافة، فلا نقترب كثيراً كي لا نحترق، ولا نبتعد كثيراً كي لا نصاب بالجفاف. وهذه وصفتها لإدارة الحبّ الناجح، لا تعريفاً للحبّ بغضّ النظر عن نجاحها أو فشلها أو إمكانيتها من عدم إمكانيتها. هل الحبّ حالة قابلة للاستدامة؟ أم هو مراحل ذهبية وفضية ويمكن أن تكون برونزية؟ وهل هو في خطّ بيانيّ صاعد دائماً، أم له ذروة يغادرها ويبدأ بعدها خطّ الهبوط؟

الحبّ ليس فعل إرادة وقرار، فلا تناسبه كل أوصاف الإرادة ومواهبها، فالأكيد أنّه ليس اختياراً نقوم به بإرادتنا، وهو شيء آخر ممّا يلتبس الاشتباه به بأعراض مشابهة تنتهي بزوال أسبابها كرغبة تملّك آخر لجماله أو نفوذه أو اشتهاء الغريزة. فهو أكثر استدامة من النزوات العابرة.

الحبّ ليس ذكاءً بل وقوع، والوقوع اللاإراديّ هو فعل فطرة العقل المعطّل عن تنميقاتنا الاجتماعية المدروسة، والتي تأخذ وقتها للمواءمة مع الممكن عندما تكون عاقلة، فلذلك هو غالباً ما يجلب الإشكاليات لعدم مواءمته لها، لأنه يقع قبل أن نأخذ وقتنا بالتفكير والمواءمة، فهو فضيحة العقل في لحظة الانكشاف، وهو غباء القدرة على التحكّم بالاختيارات المبنيّة على الصورة النمطية لما أردناه لهذه الخيارات، بعد جهد من البناء التراكمي للمعارف، فهو فضيحة الغباء الاجتماعي للعقل في اختيار يعبّر عن الحقيقة الإنسانية العارية لداخل الإنسان ما قبل الأناقة والتجميل والمساحيق المحسوبة، وهو لحظة استفاقة المشاعر من النوم قبل كل استعداداتنا لمقابلة الغير بمهابتنا وأناقتنا ولياقتنا وصحونا وملابسنا، هو عري النفس الإنسانية وغفوتها قبل فنجان القهوة وجرعة الكافيين الميقظة.
الحبّ إذاً، هو الوقوع كما هو الموت، فلا يهمّ إن وقع علينا أم وقعنا عليه، ولكنهما النقيضان والشريكان، فالموت وقوع نخشاه والحبّ وقوع نسعى إليه ونكافح بكل من الشعورين قوّة حضور الآخر، فلذلك تمتلئ تعابيرنا عن الحبّ باستحضار الموت كالقول بالحبّ الأبديّ ولا يفرّقنا إلا الموت و«بحبك موت»، ونستحضر في الموت الحبّ، فالحبّ مصل الشعور بالحياة الذي تنتجه الروح لمكافحة سمّ الخوف من الشعور بحقيقة الموت.

الحبّ بما يرافقه من مشاعر التطلّع نحو السعادة بما لا يمكن أن يجلبه للإنسان لا المال ولا النفوذ ولا القوة، وهي مصادر السيطرة على الأقدار التي يسعى إلى امتلاكها البشر، فالحبّ زاد الفقراء والمظلومين للشعور بالحياة وفرحها والسعي إلى التساوي، وربّما التفوّق على أقدارها الطبقية وتمايزاتها، وهو سعي الأغنياء والأقوياء إلى تعويض فشلهم بنيل السعادة الموهومة بمصادر سيطرة تكتمل بين أيديهم ولا تعفيهم من حزن الفشل بنيل لحظة الفرح المرتجاة، والحبّ بما هو ما لا يصنعه أو يجلبه مال ونفوذ وقوة كالصحة والأمان و سكينة النفس أو «هداوة البال» كما نقول، وهي النِعم النفسية التي لا تجلبها المقوّمات المادية في الحياة، ولو كانت الماديات ضرورات في قلب السعي إلى توفير الحدّ الأدنى من هذه النِعم، لكنّ المزيد من هذه المقوّمات المادية لا تجلب المزيد من الصحة والأمان والسكينة، ولا يمنع هذا المزيد خسارتها، فالحبّ إذاً، حاجة الروح والنفس إلى اكتمال عدّة التوازن في رحلة العبور في مركب الحياة، كما السكينة والأمان، لكنه نقيضهما بالضجيج والقلق.

الحبّ حالة لا خياراً أو صفة أو علاقة، فليس له صفة الديمومة، ولا لقوّة حضوره هذه الديمومة، فلا نستطيع القول حصلنا على الحبّ كما نحصل على الشهادة الجامعية ونطمئن، أو كما نشتري منزلاً أو كما نقيم عقد عمل، وتعقيد هذه الحالة من المشاعر في النفس الإنسانية أنها فعل ماضٍ لا فعلَ حاضرٍ أو مستقبل، فكل مشاعرها نحو الغد قلق وانقباض وتقلّصات صدرية ومعوية وضيق نَفَس، وتذكّرها فرح واسترخاء، ولا نشعر بقوّة الحبّ إلّا بعد مروره قياساً بما نكون عليه وما كنّا، فالقلق هو سِمة الحبّ، والوصول والاطمئنان بقدر ما هما هدفه الدفين، هما نهاية جماليات دفق مشاعره، فالحبّ فوضانا الـ«بلاقانون»، يبدأ بالنزول من عليائه عندما يتقونن، وفي «مرجلة» ما قبل الإدراك هو الأشدّ سحراً، وفي مرحلة الإنكار هو الأقوى، وفي مرحلة التبادل العاطفي المتقطّع هو الأجمل، وفي مرحلة الوصول والإشهار هو بداية الذبول والأفول والتحوّل إلى عقدٍ اجتماعيّ له وظيفة وعليه متطلّبات ويخضع لقانون الشركات ومحاكمها، من دون أن يعني ذلك وصف التعاقد الاجتماعي بالسوء والبشاعة، بل بما فيهما من فرص للسكينة والسعادة من أنواع أخرى لهما بحث آخر غير بحث الحبّ.

الحبّ غفوة العقل البشري لاختيارات لا إرادية، وهو الوقوع الفاضح لتكوين النفس المعقد على شريك القلق والتوجّس والحزن والانتظارات، في وجه قدر الموت الحاكم، وهو كحبل الإيمان فرصة نجاة من عذاب التفكير بالموت كوحش مقبل.

الحبّ غباء الزمن المستعجل هرباً من قطار الموت نحو ركوب قطار الإشهار والقوننة والوصول والحصول، والغباء هنا أنّه يؤدّي إلى ضياع الأجمل والأشد سحراً والأقوى، وبدء النزول عن صهوة الفرس بمغادرة ما كان في مراحل اللاإدراك والإنكار والللاإشهار.

الحبّ مرآتنا الحقيقية لحظة الصحو من النوم قبل الاستعداد لملاقاة الخارج، وقبل يقظة فنجان القهوة وفرك العيون، فالحبّ من يقول لنا من نحن، فقل لي من تحبّ، أقول لك من أنت.

الحبّ المستحيل هو الحبّ الأعمق، والحبّ الممكن هو الحبّ الأعقل، الحبّ العابر هو الومضة الأشدّ لمعاناً، والحبّ الحيّ هو الأشدّ مقاومة بالعقل لقساوة الموت بمساومات مستديمة بين العقل والقلب. الحبّ من طرف واحد هو قمة الذكاء، لأنه حبّ لا يموت ولا يصل، فهو قلق لا يتوقّف وشعور بسعادة تعيد إنتاج ذاتها، فهو حبّ الأذكياء الذين لا يعرفون أنفسهم ولا يعترف الناس لهم.

الحبّ هو الجنون الممتع الذي لا يؤذي أحداً سوانا، ونحن نستلذّ بالأذى ونخشى زواله. إنه عكس السير في قوانين الحياة.
توقعات
قناة تلفزيونية عربيّة شهيرة ستشهد تغييرات هيكيلية كبيرة في الأسماء التي تضمّ المدراء والمذيعات والمحظيين.
صيف العام الجاري سيشهد أولى الاتصالات الأمنية الغربية مع جهة موضوعة على لائحة الإرهاب لمكافحة إرهاب آخر.
سيفوز في الانتخابات الأفغانية المرشح عبد الله عبد الله لعلاقته الوثيقة بإيران كحال رئيس وزراء العراق نوري المالكي.
سيصير الرئيس الأوكراني المنتخب موضوع تفاوض على شرعيّته بين روسيا وأميركا مقابل الرئيس السوري، على أن يرعى الرئيس الأوكراني استفتاءً حول الشكل الفدرالي للدولة في مناطق الشرق والجنوب. وفي المقابل، يرعى الرئيس السوري انتخابات نيابية تشارك فيها المعارضة وتتشكل على أساسها حكومة ائتلافية.
الرئاسة في لبنان أمام مفاجأتين في اسم الرئيس العتيد، وموعد إجرائها.
سيعيَّن السفير السعودي في لبنان في منصبٍ وزاريّ في بلاده.
سيتولّى السفير الأميركي منصب معاون وزير الخارجية في نهاية هذا العام.
الذهب عملة العام 2015.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى