لعماد المقاومة تواضع الحبر وكبرياء الدم

سيلان الحبر والدم لدى أهل الخفّة والاستهتار والصدفة محض شغل، فيسيل دمٌ في حادث، أو في معركة، أو في حرب تتقاتل فيها الجيوش كمجرّد موظفين عند أسياد القرار في الحرب. كما يسيل الحبر نهراً جارياً عند الكَتَبة وشعراء البلاط أو الكَسَبة من عرق أقلامهم، فيصير الحبر عرقاً إنّما بلا جبين. عند هؤلاء الحبر والدم يكادان يتساويان، لكن الحبر يتقدّم على الدم في سيلانه، لأنه مسوغ ومصنع ذرائع، وآلة تزيين ليصير الباطل حقاً والشرّ خيراً، ولأنه السند لجعل حروب العبث والعدوان ذات قضية، وشعر الهذيان وفاء ووجدان وهوية، إلا عندما يصير الدم فضيحة النفاق ويكشف خواء الادّعاء، فيصير شاهد التاريخ على التزوير، ويكون عندئذ دم مجزرة الأبرياء أو دم الحاكم أو الوزير .

عند أهل العقيدة، ليس للدم مكافئ ولا سعر فهو الأغلى. لكنّه يرخص لأجلها فيسيل بلا استئذان. وعندهم العقيدة كلمة سال الحبر عنيداً صعباً في ممرّات بلوغها مراتب التأصيل، فحَفَر في صخور الفكر الإنساني وعَبَر بحار الفلسفة ودَخَل أنفاق التاريخ، وأضاء عتمة كهوف البحث الإنساني المتعب بقنديل الحقيقة. فيكاد يستوي الدم والحبر منعة وقيمة. ومثلما يسيلان باستحقاق بحجم ما يمثلان في العقيدة ولأجلها، يسيلان بسلاسة بهَدْيِها، لكن الحبر يكاد يتقدّم على الدم لأنه أبقى لهَدي أجيال قادمة إلى طريق بذل الدماء، ليتواصل مسير مشاعل النور. إلا عندما يصير الدم كلاماً ناطقاً، ويكون حبر حقيقة أبدية خالدة، فتلك شهادة القادة .

يتشابه في الشكل إذاً مستوى انسياب الدم والحبر، وقميتيهما ومكانتيهما، وعلينا انتظار لحظة تفوّق الدم على الحبر، وقياس الانسياب وسياقه ومصدر الفوران حتى نتبيّن أهل العقيدة من أهل القعيدة .

عماد مغنية، القائد العسكري والمقاوم المبدع، شاب أتقن علاقته بالقتال حتى مستوى أعلى رتبة. فكان العماد وكان الشهيد. والعماد الشهيد هنا حبر متدفّق في كتاب التحرير، ومراكَمة متّصلة لحقيقة متناسلة ومتأصلة عما يقدر عليه الفقراء والضعفاء، في نسيج كنزة الحرّية في برد شتاء الظلم والقهر. دمهم حبر لا ينضب، يفضح زيف دمٍ وحبرٍ يدّعيان وصلاً بليلى الحقيقة، وليلى تحدو بصوتها الشجيّ لعماد كي يغفو على تلة شلعبون في بنت جبيل، أو فوق تلال مارون ويارون، أو في غور الأردن أو على كثبان الرمل في سيناء، أو في ميناء الحديدة والخرطوم، وعلى مشارف الجولان .

للشهيد العماد حبر متواضع يستحقّ أن ينساب خجلاً ومتواضعاً مطرق الرأس، يلقي التحية بخفر، حتى ينتهي مرور موكب الشهادة بجلال ومهابة.

صفحتان من صحيفة، تختصران بعضاً من صفحات كتاب، والكتاب الأصليّ حياة عماد، لا تختصران ما يجب أن يقال، فما هو إلا حبر عن دم صار حبراً لا يجفّ ولا تجفّ منابعه ولا جفّت مآقينا. إلقاء التحية في الذكرى أمام ضريح الشهيد قد يفينا بعضاً من حقنا في قول كلمة الحق بحقه .

عماد مغنية، سأبكيك مدى اتّساع الحياة على مسيرة أنت فيها البطل، حتى تجفّ المقل، وستبقى تلك الابتسامة الراضية منذ أربعين سنة وخلالها وعلى امتداد أيامها، وأنت بعينيك الخجولتين تفكّ شيفرات القضية لتضع رموز معركة قرّرتَ أن تخوضَها حتى الثمالة، والثمالة شهادة بين نصرين، نصر تصنعه حيّاً، ونصر تضع أسسه وتشهده شهيداً .

يا لتواضع الحبر وكبرياء الدم، حبر حقيقة أزلية .

ناصر قنديل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى