الأغنية العربية في خبر كان؟!

غادا فؤاد السمان

عندما تضيق الملامح الفنيّة وتنحسر وتتماهى وتتغرّب، كما نشهد اليوم، فلا ريب في أنّه تخبّط آخر في الهويّة لا يقلّ شأناً عن المخاطر التي تُحيق بالمنطقة وليس سواها العربية طبعاً. ولا بدّ من التنبّه لعواقب التغاضي عمّا تؤول إليه الأحوال والانعكاسات السلبية المستقبلية التي تنجم عن ضياع السمات الفنيّة الصانعة للحضارة والمؤسسة لتاريخ أمّةٍ نظير سواها. ومن دون ريب فإنّ خواء المخزون الحضاري يُعتبر في حقيقة الأمر، واحداً من الواجبات الثقافية التي تتطلّب المتابعة والتدقيق بجهد وأمانة وإخلاص، ولا أغالي إذا قلت إن لا بدّ من التفاني في ملاحقة أنفاس الأغنية العربية التي تُبثّ اليوم بجرأة فادحة عبر معظم الفضائيات وما من رادع سوى الثرثرات الهامشية العابرة هنا وهناك. ومسؤوليتُنا كمثقفين هي التضامن في مقامنا هذا، إذ كل يحمل رؤيته ويضيفها شمعة، لتبديد العتمة، لا للعن الظلام كالعادة. وذلك لخلق موروث حقيقي للجيل بل للأجيال القادمة. فالفن هويّة، والهويّة لا تُقرّ إلا بالتراكم الإنتاجي والزمني، المستمَدّ والمُرتكِز على المبادئ والقيم لعمل خلاّق وأخلاقي في آن. ولا شكّ في أن الموسيقى كما الكلمة الشعرية، كما الصورة المرئية التي ينبغي أن تتطابق إبداعياً ومشهديّاً، إذ هي الوجه الآخر للحضارة كلغة حيّة معبّرة وسيطة بين الشعوب، وعلماً قائماً بحدّ ذاته له قواعده وأسسه وأصوله ومناهجه ومدارسه، التي لولاها لما حافظت على أصالتها وعراقتها. ويُجمِع حملة لواء الأغنية العربية الأصيلة على أنّها تتصل بقطبين حيويين جداً يوفران الشحنة الإبداعية فيها، هما:

الأوّل: اللغة العربية – التي تحمل في كل حرف من حروفها الأبجدية الثمانية والعشرين، الدلالة والوزن والإيقاع والحالة التي تسمح بالتقطيعات العروضيّة حيث تتشكّل التفعيلة الوزنيّة والتي تقترن اقتراناً وثيقاً بالصبغة اللحنية المقامية والإيقاعية لخلق مناخ مؤاتٍ كـ الفرح، الحزن، الإقدام، التقهقهر، الحثّ، التروّي، التصعيد والتأمّل إلخ..

الثاني: أحكام التجويد وأصول الترتيل القرآني، والتواشيح الدينية، كل ذلك كان أساساً لتهذيب الحاسّة السمعية والصوتية، وصقلها كمطلب ضروري لتغذية النفس وإرضاء الروح، وإنّ أول آلة موسيقية عرفت كل مزايا الموسيقى والتطريب هي الحنجرة البشرية التي تُجيد تجسيد المقام النغمي في حال توفّر الموهبة الأصيلة كأداةٍ لحنية وأداءٍ مموسق دون الاتكال على أيّة آلة عداها، وخير مثال على ذلك المقرئ الشيخ / عبد الباسط عبد الصمد / الذي يؤدي التجويد القرآني بإطراب بالغ، وتفريد لا يُضاهى كذلك التراتيل الكنائسيّة التي أوجدت صوتاً مميزاً كالسيدة فيروز وغيرها. ومن هنا نلحظ أنّ الأُذن العربية التي أجادت الفصاحة اللغوية اللفظية، امتازت أيضاً بالبلاغة الموسيقية من خلال مرونة الأوتار الصوتية والتي جاءت الآلات الوترية على شاكلتها متنوّعة ومطواعة، بخلاف الآلات الموسيقية الغربية التي تعتمد النفخ والأصابع بحركات محدودة، لا تُفسح للمؤدي خارج نطاق الملحّن أن يتفرّد أو أن يرتجل على الإطلاق. لهذا نجد أن الرعيل الأول للموسيقى العربية الذي عرف / فصاحة اللغة وبلاغة الموسيقى وأصول التجويد وقواعد الإنشاد / قد صَمَد حتى يومنا هذا وقد رسّخ بصمته كالوشم والتي يجهلها اليوم أكثر من 90 من المقبلين بشغف إلى عالم الغناء والذي يروّج لهم سماسرة الفن وتجّاره بشكل مريع على حساب الذائقة والهويّة، إذ يُخفِق هؤلاء بمعرفة الحدّ الأدنى من المقامات الموسيقية المتداولة لنجد أن التأليف الموسيقي الغنائي اليوم يقوم على الخلط الإيقاعي، والاستيراد العشوائي للقوالب اللحنية الغربية، والاستعراض المجاني المبتذل للجسد الأنثوي إرضاء للتقنيات الالكترونية، والشركات التجارية المدعومة برؤوس أموال ضخمة مشبوهة على الأغلب، غايتها الوحيدة استغلال الكبت النفسي عند المشاهد العربي خصوصاً، واستثمار قصور المرأة العربية عن إرضاء وإشباع الرغبة الحسيّة في حياته المحدودة، أضف إلى صيغ الإغواء الجماعية التي تستقطب أكبر كمّ من الطاقة الشبابية لتطويعها وقولبتها وتوجيهها وتفريغها وتبديدها في أحسن الأحوال، وهلمّ جراً…

يبقى القول إن الأغنية العربية اليوم تعاني من أزمة وجود وأزمة هويّة شأنها بذلك شأن الوجوه الأخرى من القضايا العالقة في عالمنا العربي، تحتاج إلى بحث ودأب لتجديد ملامحها وتأكيدها بعيداً عن الطفليين والعبثيين باسم الفن، وباسم الحداثة، وباسم التجريب. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم، هل ما يُقدمّ من تجارب دمج وتغريب في الموسيقى والألحان والغناء حالياً هو نتاج عبثي آني يُقدّم أصلا لذائقة تالفة ومنتهية الصلاحيّة؟ ومعروف أن تلك الذائقة تتفاعل معها الجموع وتحتشد للرقص والخلاعة معلنة سهولة قيادها، على غرار الجوانب الحياتية الأخرى كالمشاريع السياسية العربية التي تُطرح تباعاً وتتبعها القطاعات والقطعان دون حولٍ أو معارضة؟ فالأغنية والصورة كانتا تجتهدان لخلق موضوعٍ إنسانيٍّ ما وهو ذو قيمة لحنيّة وفنية عالية باعتمادهما في ذلك كلّه على الترجمة الأدائيّة الغنائيّة التي تُعتبر المكمّل الأساسي للصياغة الكلامية اللحنيّة الفنية.

وأتساءل مجدداً ما الذي يدعو هذا المتلقي عينه الذي يتفاعل كلياً مع الرصين ليمعن في التغاضي عن مغبّة شيوع الرائج الخفيف المخرّب؟…

لا بد إذاً من تفعيل المهمات الإضافيّة الملقاة على عاتق الكثيرين، والمعنيين جميعاً دون استثناء في إحياء المعنى الحقيقي لرسالة الفن وإعطاء القيمة الفُضلى لصيغ التداول الفني الأصيل الجديد دوماً، لاْنّه يستعصي على الحالي دون ريب. وتكاتف الجهود لهذا الغرض علّها تعيد للحن والكلمة والصوت والصورة معنى العلاقة الموضوعية، وقيمة المحتوى، راجية أن تتّفق جميعا على رؤية واحدة نَخْلُص إليها ونُخْلِصُ لها، تكون مشروعاً حقيقياً لمؤتمر فاعل يرمّم شروخ كل ما عداه من المؤتمرات العربية.

شاعرة وناقدة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى