سورية أمام الاختبار وأوهام التقسيم إلى الانحدار

الاهتمام الأميركي الأكبر، شعبياً ورسمياً، انتقل إلى الانتخابات التمهيدية في ولايات متعدّدة، لا سيما أنّ حزمة من اثنتي عشر ولاية ستعقد انتخاباتها بالتزامن يوم الثلاثاء 1 آذار غداً ، وما سيترتب عليها من صقل اللوحة الانتخابية. أهمّيتها الاستثنائية تتمثل في عدد مقاعد المندوبين عن الحزب الجمهوري التي يبلغ مجموعها 595، أيّ نحو 25 في المئة من العدد الإجمالي 2.237 للفوز بترشيح الحزب في مؤتمره المقبل. في المقابل، يعوّل الحزب الديمقراطي أيضاً على نتائج تلك الولايات التي يبلغ تعداد مندوبيها 1004 مقاعد من مجموع 2.383 في المؤتمر العام. إضافة إلى تلك الأهمية تتضمّن تلك الولايات 130 مقعداً لصالح الحزب الديمقراطي منفصلة عن عدد المندوبين آنف الذكر، وتعرف «بالمندوبين الفائضين» الذين أعلنت غالبيتهم العظمى عن تأييدها للمرشحة هيلاري كلينتون.

سيستعرض قسم التحليل آفاق الاتفاق الدولي لوقف الأعمال العسكرية في سورية، بنظرة فاحصة على الزاوية الأميركية وما تراه من حظوظ للنجاح وصدقية استمراره.

سورية

في سياق استعراض اتفاق وقف إطلاق النار، أعرب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عن عظيم شكوكه بتنفيذ بنود الاتفاق قائلاً إنّ «موسكو ودمشق تتقيدان بخطة السلام الواردة في قرار مجلس الأمن 2254، ولكن بشروطهما الخاصة وبصورة موقتة فقط، ووسيلة مرحب بها لدرء الهجمات المضادّة» من قبل المسلحين. وأوضح أنّ الاتفاق ينطوي على رسالة قوية من موسكو لأنقرة «إذا لم تسحبي دعمك للمعارضة وتغلقي الحدود، سنقوم نحن بذلك بمساعدة الأكراد السوريين، نظراً لقناعة بوتين بأنّ أنقرة ستواجه صعوبة كبيرة في حشد الإرادة السياسية الضرورية لإرسال قوات فعلاً إلى سورية، وعدم توفر الإرادة لدى واشنطن بدعم تدخل عسكري تركي». وأضاف أنّ موسكو تقدمت بلعب دور «حامي الأكراد» في سورية عبر مشروع قرار لمجلس الأمن يُدين القصف التركي للقرى الكردية في سورية». وخلص إلى القول إنّ «القادة الغربيين وجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما قبول ما تقدمه موسكو وقف إطلاق النار ، أو التمسُّك بهدف يزداد صعوبة وهو الانتقال السياسي المشروط برحيل الأسد. فالأول يعني أنّ تركيا ستجد نفسها عندئذ معزولة ومرغمة على الحدّ من دعمها للمسلحين وتبقى مسألة ملايين اللاجئين الذين أنتجهم الصراع أفضل وسيلة ضغط» للرئيس بوتين يستخدمها ضدّ أعداء الرئيس الأسد.

اعتبر معهد أبحاث السياسة الخارجية إعلان السعودية تعزيز حضورها العسكري المباشر في سورية خطوة إيجابية كونها «قد تشكل من سخريات القدر لمظهر ناجح لسياسة الرئيس أوباما، بعد حثِّه السعودية ودول الخليج على الانخراط في اللعبة»، العام الماضي. وأوضح أنّ قرار الرياض نضج «عقب فشل نفوذ الولايات المتحدة في التأثير على سير المفاوضات في جنيف ـ 3». وأضاف إنّ النتيجة التي خرجت بها الرياض «غياب تام لبديل عن قيادة أميركية للوقوف بوجه نظام الأسد، والانضمام لأنقره كوسيلة ضغط مشتركة على واشنطن لحملها على إظهار مزيد من الحزم». وخلص إلى القول إنّ «الإعلان السعودي ـ التركي المشترك» التدخل العسكري المباشر في سورية «يشكل سياسة اللعب على حافة الهاوية» للضغط على واشنطن.

رحّب صندوق مارشال الألماني بتعزيز علاقات التعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي «كنتيجة لأزمة اللاجئين السوريين، وعقب توجيه انتقادات للاتحاد خلال العقد الماضي بتراجع نفوذه عند تركيا لحثها على إدخال إصلاحات ديمقراطية». وأوضح أنّ الجانب التركي استخدم ورقة مساومة بالغة الأهمية بإدارته الهجرة غير المنظمة كوسيلة ضغط على الاتحاد الأوروبي». وأثنى الصندوق على توجهات الاتحاد الأوروبي لتوسيع نطاق سياساته الخارجية «التي أثبتت جدواها، وانضمام تركيا إلى ذلك الجهد يصبُّ في خدمة استراتيجة الاتحاد وسياساته الخارجية».

تمدُّد «داعش»

استعرض معهد «كارنيغي» ما أسماه «نزاع التعاليم الدينية بين الدولة الإسلامية والسعودية»، مرجحاً أنّ «الطرفين تسابقا على كسب روح الوهابية». وأوضح أنّ الحركات الجهادية والسلفية تقدمت في هذا المضمار «وقدمت نفسها على أنها الوريث الشرعي للطريقة الوهّابية واستحوذت على مواردها النصِّية»، كما أنّ الدولة الإسلامية «تشكل تتويجاً لذلك الجهد». وأضاف إنّ شرعية «الأسرة السعودية الحاكمة مُستمدّة من دعمها المتواصل للوهّابية ، وإن تضررت العلاقة بينهما فإنّ المرجح انتشار الفوضى في عموم الجزيرة العربية».

وتناولت مؤسسة «هاريتاج» ظاهرة تمدُّد تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى أفغانستان وليبيا، مرتكزة إلى تحذيرات أطلقها رئيس هيئة الأركان، جوزيف دنفورد، بأنّ بلاده تنظر في شنّ «عملية عسكرية حاسمة» ضدّ قواعد التنظيم في ليبيا. وشكّكت المؤسسة في تصريحات وزير الخارجية جون كيري التي أطلقها خلال جولته الأخيرة في أوروبا بأنّ «قوات التحالف الدولي حققت إنجازات ضدّ داعش في سورية والعراق، التي إن صحت ستوحي بأخبار جيدة، لكنها ليست جيدة بما فيه الكفاية». وأضافت محذرة من «تمدُّد دولة الخلافة أبعد من حدود سورية والعراق»، ما يستدعي تكثيف الجهود الحالية مع الحلفاء ضدّ «داعش».

الجزائر

وأشار معهد «كارنيغي» إلى التداعيات الداخلية التي سيتركها تدهور أسعار النفط على برامج التنمية الداخلية في الجزائر، عقب نجاح الدولة في «شراء» الاستقرار الداخلي عبر «الإنفاق الاستراتيجي، وتجاهلها للدعوات المنادية بالإصلاحات السياسية والاقتصادية». وأضاف إنّ الأزمة تتفاقم في أبعادها إذا ما أُضيفت إليها «خلافة الرئيس بوتفليقة، والعلاقة الضبابية بين الجيش والطبقة السياسية الهرمة، والشكوك المتزايدة حول قدرة الطرفين» على ضبط إيقاعات التوازن بينهما. وانتقد المعهد سياسة الحكومة الجزائرية الراهنة لعدم إنصاتها لتوصيات المجتمع الدولي المتمثلة «بخفض الانفاق الاجتماعي، وتسليم الإعانات، والاستمرار في برامج الرعاية الاجتماعية»، على الرغم من تراجع عائدات الدولة من النفط «وعزوف الاستثمارات الأجنبية» عن التوجه إلى السوق الجزائري. وحثّ المعهد الحكومة الجزائرية على «إعادة النظر في فرضياتها السابقة حول إدامة الاستقرار» ونضوج ظروف الاحتجاجات الشعبية التي تتزايد باضطراد.

إيران

الانتخابات الإيرانية الجارية كانت محطّ اهتمام المجلس الأميركي للسياسة الخارجية، متهماً «الطبقة الحاكمة في إيران بإتقان لعبة القط والفأر، وترويج ديمقراطيتها للجمهور الغربي الساذج». وأضاف إنّ الأطر الثلاثة الحاكمة في إيران «المرشد الأعلى ومجلس الخبراء ومجلس الشورى تحيل الممارسة الديمقراطية الحقة إلى أضحوكة». ومضى بالقول إنّ السلطات الإيرانية المختصّة قرّرت استبعاد 635 مرشحاً من مجموع 801 لخوض الانتخابات «لدواعي إيديولوجية يعزز عزم الأطر حماية النظام وتوطيد التوجهات الإيديولوجية للمتشدِّدين».

أفغانستان

يحرص مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية على توجيه سهام انتقاداته لسياسات الرئيس أوباما، خاصة في افغانستان، نظراً لتلكؤها في إعلان موعد نهائي لانسحاب القوات الأميركية، بل «مدّدت ببطء الفترة الزمنية التي تنوي خلالها الإبقاء على قواتها العسكرية هناك». وأضاف إنّ البيت الأبيض «لم يُفلح يوماً في الانتقال من إنجاز الانسحاب إلى حلّ يستند على الظروف الحقيقية لأفغانستان والمنطقة. كما أنه لم يعلن عن استراتيجية واقعية للتعامل مع حركة طالبان والفصائل الأخرى المعادية للحكومة». وأضاف إنّ إصرار الإدارة على الاكتفاء بدور القوات الأميركية في مهمّات «التدريب والإرشاد، والإحجام عن توفير الدعم الجوي الأميركي للعمليات لا يشكل استراتيجية عالمية حقيقية». وعبّر عن خشيته من أنّ الرئيس أوباما «ربما «ينوي ترحيل الأزمة الافغانية للرئيس الأميركي المقبل التي من شأنها «أن تصبح حبوباً سامّة».

هدنة الضرورة

توافق القوتين العالميتين على «تغليب» الحلّ السياسي في سورية تجسد بسلسلة اتصالات هاتفية تتوجت بمكالمة بين الرئيسين بوتين وأوباما حيث طالبا «كافة الأطراف بالالتزام بالموعد المحدَّد لسريان مفعول وقف إطلاق النار».

أصاب الاتفاق بعض القوى الإقليمية والدولية المتضرّرة بالخيبة، على أقلّ تعديل، وتبخرت مراهناتها على تفتيت أركان الدولة السورية.

أبرز المتضررين الإقليميين كانت الحكومة التركية وتحالفاتها الخليجية وعلى رأسها السعودية. أما القوى الدولية المتضررة فتضم مروحة واسعة ليس أقلها معسكر الحرب في الداخل الأميركي وحلفائه الأوروبيين، وفي مقدمتهم بريطانيا التي «وعد» رئيس وزرائها سابقاً بتأييد بلاده لتشكيل «جيش من المعتدلين قوامه 70,000 جندي ومقاتل» لمواجهة الجيش العربي السوري.

فيما يخصّ تركيا، تحديداً، ينبغي النظر إلى جملة تطورات تخصّ السياسة الأميركية تجاه حكومة حزب العدالة والتنمية، بدءاً بتصريحات رسمية أميركية متتالية تستبعد إنشاء منطقة أو مناطق آمنة وحظر على الطيران السوري، مروراً برفض الإدارة للطلب التركي إدراج حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على لائحة الإرهاب، وانتهاءً بمشروع قرار صادقت عليه اللجنة القانونية في مجلس النواب الأميركي، 24 شباط الجاري، باعتبار تنظيم الإخوان المسلمين منظمة إرهابية ـ كرسالة واضحة للرئيس التركي راعي «الإخوان» في الإقليم.

بيد أنّ معسكر الحرب الأميركي، ممثلاً بصقور وزارة الدفاع، سعى إلى ترضية الحكومة التركية بإعلان «البنتاغون» عن صفقة بيع تركيا قنابل خارقة للتحصينات، BLU-109، قيمتها 683 مليون دولار، 26 شباط الحالي.

أيضاً، حافظ معسكر الحرب على وتيرة خياراته العسكرية «والتهديد» بقدرة البنتاغون «تسخير قواته في سلاحي البحرية والجوية المتواجدة في المنطقة لإنشاء منطقة حظر للطيران تمتد من مدينة حلب باتجاه الحدود التركية شمالاً، تستخدم كممرّ إمداد آمن مع تركيا». صحيفة واشنطن بوست، 9 شباط الحالي .

يُشار أيضاً إلى ما تمّ تسريبه إعلامياً عن جهوزية خطط اجتياح الأراضي السورية، براً، انطلاقاً من الأراضي التركية، إذ نشرت صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية في مطلع الشهر الحالي خريطة تبين خطوط العدوان التركي والسعودي على الشمال السوري «دون تفسير مرافق». الخريطة المنشورة توضح الإبقاء على خطوط إمداد مفتوحة بين تركيا وتنظيم الدولة الإسلامية، وهي المنطقة عينها التي تعتبرها تركيا مهدّدة من قبل الطيران الروسي والمعارك الميدانية التي تشنها قوات الحماية الكردية لطرد «داعش».

في أحدث ردود فعل «البنتاغون» على الاتفاق نقلت شبكة سي أن أن للتلفزة، 26 شباط، عن مصادرها العسكرية أنّ إدارة الرئيس أوباما «تُجري سلسلة مشاورات داخلية للنظر في الخيارات العسكرية المُتاحة، تتضمن زيادة في عديد وحدات القوات الخاصة، وإنشاء منطقة حظر للطيران أو منطقة آمنة بمساعدة دول أخرى». بعضهم أطلق عليها الخطة البديلة، الخطة ـ «ب»، كما جاء على لسان وزير الخارجية في أحدث مثول له أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، 23 شباط.

واستدركت الشبكة التلفزيونية في تعليقها على الخطة «ب» قائلة إنها «مجرد فكرة وليست خطة عمل محددة ولم يتم التوصل إلى قرار بشأنها». أما «مصادرها العسكرية» فقد أكدت أنّ إنشاء منطقة حظر للطيران «ينطوي على كلفة عالية وفي حاجة إلى تخصيص موارد كبيرة، تتراوح بين 15،000 30,000 عسكري، وزادها تعقيداً دخول سلاح الطيران الروسي وراداراته وصواريخه على الخط».

جدير بالذكر أنّ الإدارة الأميركية بكافة أركانها السياسية والعسكرية لا تبدي حماسة لنشر قوات عسكرية أميركية خارج أراضيها في أي وقت منظور، تعززها التصريحات المتتالية لمعظم قياداتها السياسية.

رئيس الديبلوماسية الأميركية، جون كيري، يتعرض ولا يزال لحملة انتقادات شديدة من خصوم «الحلّ السياسي» لتناغم خطابه مع مفردات نظيره الروسي، سيرغي لافروف. شكّكت نشرة «ديلي بيست» الإلكترونية بجدوى «استماتة كيري التوصل إلى حلّ من شأنه إلحاق مزيد من الضرر بالسوريين»، 12 شباط مستدركة بالقول إنّ «فكرة» الاتفاق تعود لشهر تشرين الأول الماضي خلال مفاوضات فيينا حول الأزمة السورية.

شدّد كيري أمام لجان الكونغرس المتعدِّدة، لحثها على الموافقة على مشروع ميزانية وزارته البالغة 50 مليار دولار للسنة المالية المقبلة، على تأييد ودعم الحكومة الروسية للاتفاق والذي بدونه لن يكتب له النجاح أو إيصال المعونات الإنسانية العاجلة للبلدات المحاصرة والمتضرّرة.

استدرك كيري مراراً بالإشارة إلى هشاشة التوقعات بنجاح الاتفاق منذ اللحظات الأولى، وأنه يتوقع عدداً من العقبات تعترض طريق التطبيق «ولا ينبغي تفسير نجاحه تلقائياً بأنه سيترك بصمات إيجابية على المسار التفاوضي برمته»، بل إنه أفضل خيار متاح كبديل لخيار الحرب اللامتناهية.

بعض قوى المعارضة السورية المسلحة انتظرت حتى اللحظة الأخيرة لتسليم موافقتها خطياً للجنة الروسية ـ الأميركية المشتركة المعنية بالإشراف على تطبيق نفاذ الاتفاق. وزارة الخارجية الأميركية أوضحت أنها تسلّمت «موافقة خطية من 97 فصيل مسلح، لن يعلن عن هويتها لدواعي أمنية».

كما أعلنت «مجموعة الرياض» لقوى المعارضة، ممثلة بهيئة المفاوضات العليا، عن موافقتها في وقت متأخر قبل انتهاء الموعد المُحدّد، ما يدلّ على كثافة الضغوط الأميركية على «حلفائها ومموِّليهم».

الخطة البديلة «ب»

في معرض استعراض كيري أمام لجان الكونغرس أوضح أنّ «الخطة ـ بـ« تنطوي على إمكانية تقسيم سورية «في حال فشل اتفاق وقف الأعمال العسكرية، أو تعثُّر مسار الحلّ السياسي الانتقالي» في الأشهر القليلة المقبلة.

بيد أنه أحجم عن الإدلاء بمزيد من الإيضاح والتفصيل، مذكراً الكونغرس ومن يعنيهم الأمر بأنّ إدارة الرئيس أوباما «تتوفر لديها خطوات بديلة» بطابع عسكري، عندما تقتضي الضرورة. البعض اعتبر التلويح بـ «خطة تقسيم سورية» طرح استرضائي للمشككين في الداخل الأميركي ونظراً لضبابية بعض النصوص «المقصودة».

سرعة ردّ الجانب الروسي ممثلاً بتصريحات وزير الخارجية ونائبه بالنفي، أصاب تصريحات كيري في مقتل، إذ شدَّدت الخارجية الروسية على أنّ الطرفين لم يتناولا بحث أي خيار بديل عن اتفاق وقف إطلاق النار. واستطراداً، وإنّ مضي أي طرف بخطوات أحادية الجانب ينبغي عليه أن يتوقع عواقب خياراته.

في البعد القانوني الصرف، استخدم بيان الاتفاق مصطلح «وقف الأعمال العدائية»، عوضاً عن «وقف إطلاق النار». التعبير الثاني ينطوي عليه تحديد آفاق وضع ثابت ونهائي يتضمن خطوات محدّدة ينصّ عليها القانون الدولي. علاوة على ذلك، فإنّ الخلافات الكبيرة القائمة بين راعيي الاتفاق، روسيا وأميركا، لم يتم حصرها والاتفاق بشأنها، أبرزها تحديد وتعريف ماهية الجماعات «الإرهابية» التي تحصرها بداعش والنصرة، أميركياً، وبقية الفصائل التي لا توافق على الاتفاق، روسيا.

سورية، بدورها، أعلنت التزامها بنصوص الاتفاق والاحتفاظ بحقها في الردّ على أي اعتداء يتعرض لها سكانها وأراضيها من أي طرف كان، في إشارة ضمنية لتركيا والسعودية ومجموعاتهما الإرهابية ومشتقات تنظيم القاعدة، وطالبت أيضاً الدول الراعية بوقف دعمها للفصائل المسلحة «خشية تعريض الاتفاق للانهيار».

وسائل الإعلام الغربية، وعلى رأسها وكالة «رويترز» للأنباء زعمت أنّ «تحديد مواقع جبهة النصرة ضرباً من المستحيل»، إمعاناً في سريان ضبابية الاتفاق.

تركيا، من جانبها، أقرنت موافقتها الحذرة على الاتفاق باستخدام حقها في تعقب «وحدات الحماية الكردية»، معتبرة نفسها «غير مُلزمة بالتقيد بنصوصه أن تعرض أمنها للخطر» لا سيما في منطقة أعزاز الحدودية.

تشكل جبهة مدينة حلب مركز ثقل الاهتمام الأميركي نظراً لأهميتها البالغة في ظلّ تقدم الجيش السوري ومحاصرته الحثيثة للمسلحين، الأمر الذي شكل حافزاً وركناً أساسياً في انتقال التحرك السياسي الأميركي من خانة المراهنة والتردُّد إلى الدخول في اتفاق يمهد لحماية ما تبقى لها من وكلاء.

أشدّ ما تخشاه الأوساط السياسية في واشنطن «استعادة قوات الحكومة السورية لمدينة حلب بشكل تام، ما سيقصم ظهر فصائل التمرد. حينئذ، من شأن اتفاق وقف إطلاق النار أن يؤدي إلى تجميد مكاسب الحكومة في مكانها، وإتاحة الفرصة للرئيسين الأسد وبوتين إملاء شروط التفاوض».

أوضح أحد المسؤولين الأميركيين السابقين، رافضاً الكشف عن هويته، مدى المخاوف الأميركية في حال «سقوط حلب وما سيسفر عنه من كسر شوكة المتمردين، فإنّ الحكومة السورية وبدعم روسي قد يفضلان تجاهل الاتفاق برمته والمضي لاستعادة كافة أراضي البلاد. الرئيس الأسد يفكر حقاً ضمن هذا الإطار كما أبلغ وكالة الأنباء الفرنسية بعد ساعات معدودة من إعلان الاتفاق قائلاً إنّ قواته ستستعيد السيطرة على كافة أنحاء البلاد».

ماذا بعد

لا يضمر المسؤولون الأميركيون، السابقون والحاليون، بالغ قلقهم من الإنجازات المضطردة للجيش السوري وحلفائه، مضى أحدهم موضحاً لوسائل الإعلام حديثاً، مع تحفُّظه عن الكشف عن هويته، أنه «بفضل المساعدة الروسية، فإنّ الجيش العربي السوري يقف على أعتاب تحقيق نصر كبير في حلب. نصر قد يسهم في بقاء الرئيس الأسد في السلطة». وأضاف إنّ «روسيا والأسد لن يسمحا للاتفاق اعتراض إنجاز نصر كامل. في أفضل الأحوال، قد يقدما على إنهاء الأعمال العدائية من أجل تعزيز إنجازاتهم الأخيرة ليس إلا».

الأطراف الإقليمية المتضرّرة، تركيا والسعودية بشكل أساسي، لن تستسلما بسهولة للالتزام بالاتفاق، خاصة في ظلّ تصريحات تصعيدية متتالية للرئيس التركي أردوغان يؤكد فيها عزمه «القضاء على التهديد الكردي على وحدة تركيا»، واكبها أيضاً تصريح نائب وزير خارجيته، نعمان كورتولموس، في 23 شباط الحالي، مؤكداً أنّ بلاده «ستستمر في شنّ الهجمات في الأيام المقبلة، إن اقتضت الضرورة». بيد أنّ خيارات الثنائي التركي ـ السعودي مجتمعة تقيده بعدم القفز على «رغبات» الراعي الأميركي، في المرحلة الراهنة.

التدقيق الأولي في بنود الاتفاق يشير بما لا يدع مجالاً للشك «موافقة» واشنطن على استمرار ملاحقة داعش والنصرة «وآخرين»، لاعتبارات جيوسياسية وضرورات الاستراتيجية الأميركية الشاملة التي تبذل قصارى جهدها للحدّ من بروز الصين وروسيا شرقاً، وربما ما حفزها للموافقة على وضع ترتيبات في الشأن السوري بعد نفاذ مراهنتها على الوكلاء المحليين. أما الوكلاء الإقليميين، تركيا والسعودية وآخرين، فليس أمامهم من خيار سوى التأقلم مع المتغيرات الدولية. الثنائي الإقليمي المذكور يعزي نفسه بأنه ينتظر قدوم الرئيس الأميركي الجديد ليستعيد نشاطه وإحياء خيار التدخُّل العسكري.

«الخيار البديل»، سالف الذكر يتأرجح أميركياً في مرحلة سياسية متأخرة، أمام رفض روسي مقرون بإصرار سوري على استعادة السيطرة على كافة مناطق البلاد. لو افترضنا جدلاً حقيقة خيار التقسيم، فإنّ أول الرابحين سيكون الطرف الكردي بكافة تشعباته وامتداداته. وربما هذا ما يفسر «حماس» التنظيمات الكردية التعاون مع روسيا لاعتقادها بأنها أهل للمراهنة، وكافأتها موسكو بفتح مكتب تمثيل لها في موسكو يتمتع بمرتبة ديبلوماسية.

من يتابع التصريحات الروسية منذ بدء الحرب الكونية على سورية يلحظ بوضوح إصرارها على التمسُّك «بوحدة وسيادة الأراضي السورية»، وهو ما ضمنته للقرارات الدولية المتعاقبة ذات الصلة، وتردّد صداها على لسان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الذي دأب على استغلال أي فرصة متاحة للتشديد على «ضرورة المحافظة على وحدة وسيادة ومؤسسات الدولة السورية».

على ضوء ما تقدم، باستطاعتنا القول إنّ «مشروع التقسيم» ذهب أدراج الرياح بعد التحولات السياسية والمتغيرات الميدانية، وتفاقم مأزق الدول الإقليمية الداعية لذلك، خاصة تركيا التي كانت تطمح لتواصل منطقة مدينة حلب بالموصل في العراق تحت سيطرتها.

واستطراداً على ما سبق، فإنّ ما ينطبق على «وحدة» الشمال السوري ينطبق أيضاً على هضبة الجولان السورية المحتلة، وتبخر مراهنة «إسرائيل» على إنشاء «منطقة عازلة» هناك على غرار تجربة سعد حداد الفاشلة آنذاك في الجنوب اللبناني المحتلّ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى