تهديدات «داعش» للمغرب… حجم الخطورة وطبيعة التدابير
عبد الفتاح نعوم ـ المغرب
عكست تصريحات وزير الداخلية في مجلس النواب درجة الجدية التي تطبع تعامل الدولة المغربية مع ملف العائدين من جبهات القتال، وتحديداً أولئك الذين ينضوون تحت ما بات يعرف بـ»دولة الخلافة على منهاج النبوة» ووصل بعضهم إلى مراتب قيادية ضمن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ومن ثم تسلّمهم مهمّات في هياكل «الدولة» المعلن قيامها.
لتخوّفات المغرب واستعداداته التي أعلن عنها الوزير ما يبرّرها، إلاّ أن هذا الوضع ليس جديداً، وحصل تراكم لحالات انضمام المغاربة ومغاربة أوروبا إلى التنظيمات التابعة لـ«القاعدة» أو التي تحمل فكرها ومشروعها، منذ مطلع 2012. غير أنه ازداد كثيراً نتيجة التحول الكبير الذي عرفته «القاعدة» منذ حدوث الصدع بين «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، والذي انتهى بتحول «القاعدة» إلى تجربة جديدة لم تعهدها منذ أيام «الجهاد الأفغاني» والعالمي ثم المحلي، وازدادت مع ذلك التحول خطورة العودة، وخطورة بقاء الدولة وبالتالي زيادة قدرتها على جذب المقاتلين.
ماذا لو هاجمت «القاعدة» المغرب؟
تحت هذا العنوان نفسه كتبتُ مقالاً تأملياً قبل أن يصبح موضوعه سارياً في الصحف والمواقع ومراكز الأبحاث. كان ذلك مطلع عام 2013 عندما حاولت شرح ما يحصل في سورية بإعطاء مثال افتراضي، ولم يكن في ذهني أن السيناريو ممكن الحدوث إلى هذا الحد، إذ لم يكن يعزّزه آنذاك سوى حالة الفوضى الناجمة عن انهيار السلطة في ليبيا، والتي وسعت بيئة الاشتغال لتنظيم «القاعدة»، ونجم عن ذلك التمدد صوب مالي. وبعد ذلك أعلن تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي أن المغرب يقع ضمن استراتيجياته من خلال بث شريط فيديو مدته 41 دقيقة في الأول من أيلول 2013.
إلاّ أن السيناريو المفترض الذي رسمتُه آنذاك، لم يكن لغاية بحث مدى حدوثه، إنما لتبيان ما يحصل في بلدان أخرى. أما سيناريو عودة المقاتلين من بؤر التوتر بعد فشل مشاريعهم، أو بعد أن يكونوا جاهزين للقيام بأعمال إرهابية في بلدانهم، فله الكثير مما يدعمه، فحديثاً بعدما استولت «داعش» على محافظة الموصل شمال العراق، بث بعض الشبان المغاربة المنضوين تحت التنظيم نفسه مقطع فيديو قصيراً يعلنون فيه أن المغرب هو وجهتهم بعد أن «منّ الله عليهم بالمشاركة في إقامة الخلافة على منهاج النبوة»!، ناهيك عن تهديدات أخرى لشخصيات مغربية كثيرة، تغذيها بشكل أو بآخر تصريحات شيوخ متشدّدين داخل المغرب مثل النهاري وأبو النعيم.
يظهر من مداخلة وزير الداخلية في مجلس النواب أن الدولة وأجهزتها الأمنية تحديداً على علم بما يحصل، وبأسماء المغاربة ومهمّاتهم ضمن التنظيم المذكور، بل يعكس درجة اليقظة والجاهزية التي أضحت عليها تلك الأجهزة، ما يعني أن ثمة تهديدات حقيقية، وينبغي مواكبتها عبر الإكثار من الحديث عنها إعلامياً لاستنفار الرأي العام من هؤلاء العائدين، ومنعهم من تشكيل بيئة حاضنة يضمنها لهم تعاطف المجتمع مع العناوين البراقة التي يعلنونها.
إلى هذه الحدود يبدو أن ثمة خطة أمنية مدروسة، وأن هناك تنسيقاً على أعلى المستويات بين أجهزة الاستخبارات العالمية والإقليمية، ولعلّ قرار القضاء على دولة «داعش» ينتظر فحسب حلحلة الملفات العالقة بين القوى العظمى والقوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. فالمزيد من الوقت يتيح لـ«داعش» تضخيم قدراتها على تهديد استقرار مجموعة من البلدان، والقضاء عليها يحتاج تفاهمات أكبر، وهنا تكمن خطوة المعادلة. وفي جميع الأحوال، تلك التهديدات تختلف خطورتها من بلد إلى آخر.
قد يواجه المغرب تهديدات من «القاعدة» تهدد استقراره، لكن أقصى تهديد يمكن بلوغه في هذا الاتجاه يتمثل في تنفيذ هجومات على مواقع حيوية تؤدي إلى خفض عائدات المغرب من السياحة، أو تؤثر في مصالح استثمارية معينة. هذا سقف التهديدات التي تثير مخاوف الدولة وتوجب عليها اتخاذ تدابير استباقية. أمّا أن يكون التهديد ممثلاً في قدرة «القاعدة» ومفرداتها على «تبيئة» نفسها ضمن رقعة جغرافية في المغرب مثلما حدث في شرق سورية وغرب العراق، فهذا أمر مستبعد لأنّ دونه الكثير من العوائق، فلا بد من انخراط دولي لتمهيد الأرضية لإستراتيجية كهذه، كما حدث أثناء «الربيع العربي»، ويبدو أنه من المستبعد أن تغير تلك القوى موقفها الآن من المغرب كحليف خارج الناتو، فتلك القوى لا تغيّر عادة مواقفها إلاّ إذا دعت ضرورة قصوى مثلما حصل حينما تخلت الولايات المتحدة عن الشاه بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية.
لعل من مصلحة البوليساريو والجزائر التسهيل لوقوع ذلك في المغرب، لكن ذلك أيضاً يمنعه أمران:1- اللعب بهذه الورقة خطير على من يلعب به، خاصة الجزائر. ويبدو أن المغرب متخوف من هذه الزاوية على ما يبرز في تصريحات وزير الداخلية، لا سيما أن هناك أخباراً عن وجود خلايا لـ«القاعدة» في مخيمات تندوف، ناهيك عن تحركات خلايا عديدة في منطقة الساحل والصحراء، وأعمال «القاعدة» في جبل الشعانبي غرب تونس. 2- القوى العظمى لن تسمح باهتزاز الأمن في المغرب ولو كان ذلك في مصلحة الجبهة والجزائر، لأن المغرب يعتبر من الجغرافيات الجسرية بالنسبة إلى القوى العظمى، ويعتبر أيضاً خطاً دفاعياً أمامياً ينبغي تحصينه، فضعف الدولة في المغرب يعني مشاكل أمنية لا حصر لها في أوروبا، وقد تجد هذه الأخيرة صعوبة في التصدي للهجرة السرية رغم وجود دولة قوية في المغرب ! فكيف بها إذا اهتز الأمن وأمست الحدود منفلتة تماماً؟ لا بد أن حريق مزرعة جارك سيصيبك بشيء ما، خاصة أن الرياح لا يؤتمن جانبها، لذلك فإن القوى الكبرى ودول أوروبا تحديداً، وأيضا دول الجوار ليس من مصلحتها تيسير السبل للمس باستقرار المغرب.
أيّ تدابير مطلوب اتخاذها؟
نحو 1122 مقاتلاً مغربياً هم موجودون في العراق وسورية، وما بين 1500 و2000 من المغاربة الحاملين جنسيات أوروبية، وأكثر من 200 مغربي لقوا حتفهم كانوا ضمن صفوف «داعش»، وألقي القبض على 128 ممن عادوا إلى المغرب، وينتظر وصول الباقين. إنها الأرقام التي كشفها وزير الداخلية بناء على معلومات استخباريّة، وخطورة كل فرد منهم تكمن في الأفكار التي يحملها وتقنيات القتال وصنع المتفجرات التي تعلمها هناك، ثم إمكاناته في التفجير والقتل بلا هوادة، ناهيك عن قدرته على ربط الاتصال بأفراد آخرين تعرف إليهم هناك.
أجهزة الاستخبارات المغربية يسهل عليها جمع معطيات من هذا النوع، فبقرار عالمي تمّ ضبط استخبارات البلدان العربية والإسلامية تحديداً للإحجام عن منع تدفق المقاتلين إلى سورية. كان ذلك في لحظة تجندت فيها محطات التلفزيون والشيوخ للإفتاء بوجوب قتال «حاكم نصيري علوي يسلط جيشه الرافضي لقتل أهل السنة الذين يحتجون بسلمية»! وببحث بسيط عن الطرائق التي تجند عبرها هؤلاء المقاتلون يتبين أنها كانت أسهل ما تكون على المراقبة. كان هؤلاء يرتادون صفحات «فيسبوك» و»تويتر» المعدة للتجنيد، أو يُستقطبون مباشرة من طرف محرضين محترفين، ولم تفرق هذه الشبكات بين من سبق لهم أن حملوا فكراً «جهادياً» والذين بالكاد لا يعرفون شيئاً عن الموضوع.
إذن لا يعقل أن أجهزة الاستخبارات لم تكن تعرف، بل كانت تتبع الأمر لحظة بلحظة، وتلعب على التوازنات بدقة متناهية، بحيث يُغضّ الطرف عن المهاجرين إلى تركيا أو الأردن أو لبنان عبر مطارات المغرب، ومن هناك تشرف الاستخبارات الأجنبية السعودية والأردنية والتركية على غرف العمليات التي كانت مقامة على الحدود، ويتدفق هؤلاء المقاتلون إلى الداخل السوري، وهناك العديد من هؤلاء ممن وصفوا أسلوب دخولهم إلى سورية بأنهم لم يكن لهم سابق معرفة بأحد من الذين أدخلوهم إلى سورية، ولا بمن ألحقهم بمعسكرات التدريب. هناك فحسب من يذهب بسابق رغبته وتلقيه الأفكار الجهادية من الفضائيات والإنترنت، وهناك من يتم تجنيده عبر شبكات تعمل بالدعاية وبالمال وتختار ضحاياها بعناية فائقة. وبالتالي فإن أجهزة الاستخبارات في بلدان عربية وأوربية كانت مجبرة على السير في هذا الخط وعدم الوقوف في وجهه.
الآن، لا يعرف أحد أي أسلوب تنتهجه الدولة المغربية بعد اعتقال هؤلاء العائدين، هل هو الأسلوب التقليدي للاستنطاقات كما هو معروف من شهادات الذين كانوا معتقلين سابقين بعد حوادث 16 أيار؟ أم أن هناك تكيفاً مع طبيعة هؤلاء الأشخاص وطبيعة الخطر الذي يشكلونه؟
يمكن بداية اعتبار أسلوب الخروج الرسمي بالأرقام والحديث عن التدابير وما سواها أمراً جيداً، لكن إذا لم يكن ذلك مدروساً بما يكفي قد يأتي بمجموعة نتائج متراكبة ومتناقضة. يهيّأ الرأي العام الوطني لتقبل إجراءات الدولة لفرض الأمن، ويزيد حقد المتعاطفين مع هذا الفكر على أدوات السلطة، خاصة أن المتتبع يلمس تعاطفاً من مستويات مختلفة مع «خلافة داعش»، تعاطف مبعثه واقع اللاتنمية، وبريق «مشروع الخلافة» الذي ثمة اعتقاد أنه الحل والمخرج من معضلة الفرق الشاسع بين من يملك ومن لا يملك.
بالتالي، على الدولة أن ترسم في هذا الصدد استراتيجية متعددة المستويات، ففي شأن العائدين من جبهات القتال، ينبغي الاشتغال عليهم وفق «تقنية العزل الاستخباريّ»، والاستعانة على ذلك بالاختصاصيين النفسيين والقيّمين الدينيين. فالمشكل لدى هؤلاء أنهم يحملون فكراً تدفعهم إليه حالة نفسية مبعثها كراهية الواقع، فلذلك ينبغي الاشتغال على المشكل في جذوره، وتأهيل عناصر الأمن للتعامل مع وضع دقيق جديد كهذا، واستحضار أن هناك من العائدين من اكتشفوا فعلاً زيّف ما ذهبوا لأجله، لذا ينبغي التعامل مع كل فرد بأسلوب مختلف.
أما في ما يخصّ المجتمع فمن الأفضل أن يستمر الضخ الإعلامي لخلق حالة تمنع توافر بيئة حاضنة لهؤلاء العائدين، لكن ينبغي أن تكون الحملة مدروسة بحيث لا تصل إلى حد فائض ويصير عزل هؤلاء اجتماعياً باعثاً على المزيد من الحقد لدى من يتعاطف معهم. لا يجب النظر إلى المسألة بمنطق تكتيكي آني، إنما بمنطق استراتيجي، فكل بذرة من هذه البذور يتم التغاضي عنها الآن ستكون لها تأثيرات خطيرة مستقبلاً، بحيث أن الدولة تصطدم بما يوجد من صورة كامنة وغير جيّدة لها في أذهان المواطنين، وهي نظرة يمكن أن تقفز إلى الواجهة في أي لحظة إذا توافرت لها الشروط، أو تراكمت الأخطاء في اتجاه تكريس تلك النظرة.
لذا يجب إعادة ترميم صورة رجال الأمن والدرك والجيش في ذهن المواطن المغربي، فتغيّب وتمحى صورة رجل الأمن المتعسف أو الدركي المرتشي أو الجندي المنحلّ أخلاقياً، فتلك الصورة نُمّطت على مدى عقود وتحتاج إلى استراتيجية دقيقة للقضاء عليها. كما يجب إعادة الثقة في النفس لدى المنتمين إلى تلك الأجهزة، وإخراجهم من حالة الانضباط الخشن إلى الانضباط الطوعي، وكذلك إيقاظ هممهم بالأسلوب الذي يجعلهم في منأى عن الحرج الذي تسببه لهم ثقافة الاحتجاج، ويجعلهم في الوقت نفس مقتنعين بأنهم أداة الحرب على الإرهاب من دون المساس بحرية الإنسان وكرامته، وهذه القضية بدورها تحتاج إلى استراتيجية واضحة المعالم.
يبقى من واجبات الدولة أن تزيد في الأيام المقبلة سرعتها على طريق توسيع هامش المكتسبات المادية والمعنوية، ولعلّها اللحظة التي إن لم يقتنصها المستثمرون ويقيموا صلحاً مع الفقراء فإنّ مصالحهم ستكون مهددة على المدى البعيد، فالإرهاب لا يحتاج إلى أكثر من مناخ يبرر تغاضي الجميع عن التفاصيل التي تؤدي مجتمعة ومتراكمة في الزمن إلى كارثة حقيقية، وبما أن المشكل فكري/اقتصادي، تنبغي معالجته في جذوره.
لا بد من أن يصطف المجتمع وراء حالة ما، ويا للأسف، التنظيمات المتطرفة تطبق هذه الحالة، وسيحتاج المجتمع العربي المسلم إلى كثير من الوقت كي يكتشف أن الإسلام الذي يداعب خياله لا يمت بصلة إلى ما يدعو إليه الكثير من هؤلاء. فلذلك ينبغي الوقوف بحزم وبتعقل أمام هذه التحديات، فهل ينجح المغرب في وضع خطة وطنية لمكافحة الإرهاب القادم من خارج/داخل الحدود؟ وهل يمكن أن يضع خطة تكون أدوات تنفيذها قائمة في الدولة الأجهزة والمجتمع؟