دعوهم يقتلون أنفسهم بهدوء
فهد المهدي
ضخامة الحوادث في البلدان العربية أذهلت الكثير من الدوائر التي كانت تضع الوضع العربي تحت مجاهرها، فإذا بتلك الحوادث العملاقة تسفر عن حقيقة واضحة قد لا تروق للبعض، فالعالم العربي يحترق ويفني نفسه مع عدم شعور بالخطر المذكور إلاّ لدى ثلة قليلة من العرب.
الكيان الصهيوني الدخيل الذي غرسته الرأسمالية الأوروبية والأميركية في الجسم العربي ساهم في تكريس هذه الحالة، لذا فهو يقودها ويستثمرها بوعي ويوجهها بدقة محكمة كجزء من استراتيجيا بعيدة المدى لمنع ظهور أي قوة منافسة له لعقود مقبلة، ففي مقال لصحيفة «يديعوت أحرونوت» كتبه أليكس فيشمان نقرأ: «لماذا علينا نحن «الإسرائيليين»، بسبب عدد من الضباط الكبار الذين لا يهدأون ورئيس حكومة يسارع إلى الحرب، منح العرب سبباً للاتحاد حول القاسم المشترك الوحيد بينهم وهو كراهية «إسرائيل»؟ دعوهم يقتلون أنفسهم بهدوء».
فهل ـ ـ ما يحصل ما هو إلاّ ل ـ ـ ّ؟
العدوان الصهيونيّ على غزة الذي يبدو أنه جس نبض للعالم العربي، على ما يؤكد خبراء سياسيون وعسكريون، حيال القضية الفلسطينية الأمر الذي قد تستغله «إسرائيل» للقيام بعملية عسكرية واسعة للسيطرة على غزة، بحسب تصريح قادة الحرب الصهيونية، إذ طالب وزير الخارجية، ليبرمان، نتنياهو بمواصلة الحرب على غزة بل واحتلالها، مؤكداً أنّ وقف إطلاق النار كان تمهيداً للمرحلة المقبلة.
الصورة التي ُتنقل اليوم من غزة لا تجسّد مأساة أهلها فحسب، بل لها دلالاتها العميقة في السياسة، خاصة إذا ما جُمعت إلى الوضع العربي المتجسد في مقولة الفرزدق «قلوبهم معك وسيوفهم عليك»، والمنشغل في قضايا التغيير والثورات ومواجهة الإرهاب وتهديدات الجماعات المتطرفة وأخطار الفتنة الطائفية والمذهبية ومخططات التقسيم والتجزئة.
الاستدراج الممنهج لتنفيذ مخططات جاهزة أعدت في المختبرات التي تحدد معالم الخريطة السياسية الدولية لإقامة أمن «إسرائيل» وتحقيق رفاهيتها واستقرارها بإشاعة حالة اللااستقرار والفوضى والعنف في البلدان المحيطة بها، وبلقنة المنطقة العربية وتقسيمها وتمزيق دولها وتفتيتها إلى ميكرو دويلات ضعيفة ومنهارة اقتصادياً ومتناحرة اجتماعياً و طائفياً والتي نشهد فصولها الأولى في العراق وليبيا واليمن، فيما العرب يتفرجون على اغتيال غدهم بعيون مفتوحة… إذ شهدوا مأساة فلسطين الأولى، فالثانية، فالثالثة، وشهدوا مأساة لبنان التي تكرّرت فصولاً على امتداد ثلاثين عاماً أو يزيد، وشهدوا مأساة العراق الأولى في غزو الكويت، ثم الثانية في الاحتلال الأميركي بكل ما حفل به من قتل جماعي وتشريد الملايين وتدمير أسباب الحياة في أغنى بلد عربي، ونسف ركائز الدولة الواحدة الموحدة فيه.
هذا الوضع المأسوي الذي تشهده مدن فلسطين والعجز العربي ضد العدو الصهيوني يدعونا إلى التساؤل والحيرة حول القدرة الفائقة التي جمعت دولاً عربية وإسلامية إعلامياً وعسكرياً ضد أشقاء وجيران فجعلت بلدانهم ساحات حرب مفتوحة يتوافد إليها الإرهاب من كل بقاع الأرض، وتقف اليوم مما يجري في البلد العربي «فلسطين» مكتوفة الأيدي لا تحرك ساكناً، باستثناء تصريحات خجولة لا تقدم ولا تؤخر، فأين السعودية وقطر وأين تركيا مما يحصل اليوم في غزة ؟ تلك الأنظمة التي كانت ولا تزال تسرع في تقديم الأموال والسلاح للإرهابيين المسلحين في سورية وليبيا والعراق واليمن، والتي تدّعي أن العدوان المسلح من قبل الأنظمة على الشعب يستدعي تسليح الشعب ليدافع عن نفسه.
بلى، هم أرادوها حرباً تحرق الأخضر واليابس، حرباً ضد القلاع التي حصّنت المقاومة ودعمتها ضد العدو الصهيوني، إلى حدّ أن بعضهم رحب بالتدخل الأجنبي ضدها، فباتوا اليوم منشغلين إلى حد بعيد بأنفسهم وبما صنعته أيديهم وأضحت بلدانهم مقابر للموتى ومنابر للطائفية والمذهبية والحزبية والعرقية.
إنّ القادم أشد وأقسى مما يظنه البعض، في ظل تكشّف حقيقة نوايا التوسع الصهيوني للهيمنة على المنطقة العربية برمتها ، واستمرار هذا الوضع المتردي للواقع العربي وتكريسه عبر وسائل وأساليب مختلفة، ما ينذر بخطر محتوم لن يقف عند غزة فحسب بل سيتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.