المستأجرون القدامى: إلى الشارع اليوم قبل التشرّد فيه غداً
أ. ط.
إنّها علّة العلل، التي لم يعرف مشرّعو المجلس النيابي سبيلاً إلى معالجتها. مشروع قانون يُجترَح هنا، وآخر ينام في دهاليز الجوارير هناك، ليظهر ثالث وربما رابع وخامس، بينما الحلول لا تنصف المالكين ولا المستأجرين القدامى.
المالكون والمستأجرون يتّهمون الدولة بأنّها تزرع الشقاق بينهم، والدولة التي لا تكفيها ملمّات السياسة والأمن والأوضاع الإقليمية والانقسام الداخليّ، عاجزة عن لعب دور الحكَم، أو حتّى القاضي العادل.
منذ أيّام قليلة، أقرّ مجلس النوّاب قانون الإيجارات الجديد بمادة وحيدة، معتمداً على ما قرّرته لجنة الإدارة والعدل النيابية من تعديلات على مشروع الحكومة. ومفاعيل هذا القانون تطاول حوالى مئة ألف أسرة لبنانية. يبدأ القانون بإيجار الأماكن السكنية وأحكام خاصة بما سمّي «صندوق المساعدات» والمستفيدين من تقديماته، باستثناء الذين استأجروا وفق أحكام القانونين 29 67 و10 74 ، أي الأبنية التي كانت تعتبر فخمة.
وإذا كان المالكون قد سُرّوا بهذا القانون في مكان ما، فإنّ المستأجرين اعتبروه حكماً بالتشريد عليهم وعلى أسرهم. فثارت ثائرتهم، وأعلنوا التصعيد، ونادوا بوأد هذا القانون قبل أن يبصر النور رسمياً، وباللغة الرسمية اللبنانية، قبل أن يوقّع عليه رئيس الجمهورية ميشال سليمان، فيصبح نافذاً.
أمس، كانت خطوة تمهيدية للتصعيد. في الدعوة كُتِب اجتماع للجنة المتابعة في المؤتمر الوطني للمستأجرين القدامى في مقر الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين ـ وطى المصيطبة. وفعلاً أتى المستأجرون من أماكن عديدة، وغصّت بهم القاعة، لكنّ الاجتماع ما لبث أن تحوّل إلى مؤتمر صحافيّ، لا بل إلا منبر خطابي، لم تخلُ الكلمات فيه من النبرة العالية والتجييش. وكادت تنفلت الأمور من أيدي المنظّمين، إذ كاد يؤدّي التجييش إلى «نزلة عفوية عالشارع».
معضلة تشبه الشيب
يدخل المستأجرون القدامى، ومن سِماهم تعرف وجعهم، عتق معضلتهم، لا بل سخطهم. بعضهم تجاوز السبعين، والقلّة القليلة من الشباب الذين اتخذوا صفة «الورَثة».
قبل بدء الاجتماع، تكثر الأحاديث الجانبية التي تتشابه كثيراً، فالقضية واحدة. واحد منهم يقول: «الاجتماعات والمؤتمرات والبيانات لا تفيد، نحن اليوم بحاجة للنزول إلى الشارع»، ولا يتردّد بتحفيز غيره على الاقتداء بالمياومين ومتطوعي الدفاع المدني والمعلمين.
يردّ آخر: «ماذا فعلنا للناس كي تنزل إلى الشارع؟ المناشدة الأخلاقية لا تكفي وحدها، والأقوال لا تنفع إن لم تقترن بالأفعال».
من دون نشيد
يكتمل مشهد امتلاء القاعة، وإذ يقترب موعد افتتاح الاجتماع، يبدأ رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين كاسترو عبد الله حديثه معلناً أنّ الاجتماع سيفتتَح من دون النشيد الوطني اللبناني، وذلك «احتجاجاً على تهجيرنا من كل حيّ ومبنى ومدينة، واحتجاجاً على النواب، وعلينا نحن أنفسنا لأننا نيام ولا نرفع الصوت، بل نلجأ إلى طوائفنا ونوابنا ووزرائنا وأحزابنا، والمؤسف أنهم كلّهم باعونا».
وقال: «لقد اتفق النواب وصوّتوا بشبه الإجماع، وبمادة وحيدة، على كيفية طرد أكثر من مئة ألف عائلة من المساكن التي تأويها، عدا عن عشرات الآلاف من أصحاب المهن والحِرف الصغيرة والحوانيت، أي أكثر من ربع المواطنين الذين لن يستطيعوا دفع البدلات الباهظة المحدّدة في قانون الإيجار، وسيجدون أنفسهم في الشارع أو سيفقدون، عاجلاً أم آجلاً، مصدر رزقهم. وحاول النواب ذرّ الرماد في العيون عبر اختلاق صندوق للتعويضات يغذّى من إقرار ضرائب جديدة غير مباشرة، لن تصيب سوى المواطنين في الطبقات المعوزة والكادحة».
وأضاف: «سبق لنا أن أشرنا، منذ نهاية مأساة الحرب الأهلية، إلى أن ما يعدّ في مجال قانون الإيجار يهدف، أولاً وأخيراً، إلى تهجير اللبنانيين من بيروت أولاً، ومن المدن اللبنانية الكبرى، تسهيلاً لدور الشركات المالية والعقارية التي نشأت منذ تسعينات القرن الماضي، والتي لم تتوانَ عن بيع عاصمتنا ووطننا للأجنبي. وإننا، في الوقت نفسه، أكّدنا أننا لن نسمح بتملّك الأجانب لبلادنا، ولا برمي عائلاتنا في الشارع، بالاستناد إلى قانون جائر لم يراعِ لا الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي تعصف بنا، ولا عدم وجود توازن بين العرض والطلب في مجال الإيجارات السكنية».
ودعا عبد الله رئيس الجمهورية إلى عدم التوقيع على «هذا القانون التهجيري، وردّه إلى مجلس النواب»، كما طالب رئيس مجلس النواب نبيه برّي «باستعادة القانون، وصوغ بديل منه يستند إلى مطالب المستأجرين والمالكين من ذوي الدخل المحدود، لا إلى جشع الشركات العقارية والمالية والمضاربين العقاريين الذين باعوا الوطن من دون أن يرفّ لهم جفن».
كلمات ومداخلات وبيان
وتحدّث زكي طه بِاسم لجنة الدفاع عن المستأجرين وقال: «إن جوهر القانون هذا، تشريد المستأجرين وتفريغ بيروت من أصحاب الدخل المحدود وكل ما تبقى من الطبقة الوسطى لصالح الأغنياء. وهناك تضليل من جانب الإعلام، الذي يحاول تجميل القانون. إنّ وراء هذا الأمر مافيات من الشركات العقارية الكبرى وتجار المال والبناء».
أما عصمت عبد الصمد، فتحدّث بِاسم «جبهة التحرّر العمّالي» وقال: «إن مشروع القانون يسير بسرعة، كما أقرّ بالسرعة نفسها بمادة وحيدة، ويسلك طريقه إلى القصر الجمهوري ليوقّع عليه رئيس الجمهورية مع نهاية ولايته. ومن أجل ذلك، ندعو إلى الاسراع في التحرّك لمنع تمرير القانون المشؤوم».
واعتبر رئيس تجمّع المستأجرين نبيل عرجة أنّ القانون ليس لمصلحة المستأجرين، ولا وجود فيه لأيّ مفهوم للتعويض، «فهو قانون تشريد وتهجير وطرد، وبمثابة عملية إعدام للغالبية الساحقة من المستأجرين».
وكانت مداخلة لأنطوان كرم عن لجنة دعم المستأجرين.
ثمّ توجّه المجتمعون إلى ساحة وطى المصيطبة أمام مقر الاتحاد، وتلا طه بيان اللجنة الذي أكّد «رفض المستأجرين القانون الأسود جملة وتفصيلاً، وأنّهم يرون في إقراره من قبل المجلس النيابي وصمة عار بحق التشريع وحقوق الإنسان والوطن».
وجاء في البيان أيضاً: «إن القانون المقرّ ليس أقلّ من جريمة بشعة بحق أكثر من ثمانمئة ألف مواطن، لأنه سيؤدّي إلى تشريد الغالبية الساحقة منهم وتهجيرها… وإنّ نتائج هذا القانون الكارثية تفوق ما نجم عن الاعتداءات والحروب «الإسرائيلية» والحرب الأهلية على حدّ سواء، وطاولت اللبنانيين من خلال التهجير والفرز الطائفي والقهر الاجتماعي والمعاناة الإنسانية».
ودعا البيان «جماهير المستأجرين وعائلاتهم إلى التحرّك دفاعاً عن حق عائلاتهم في السكن والنزول إلى الشارع والمشاركة في الاعتصام الشعبي في وسط بيروت في العاشرة قبل ظهر الأربعاء المقبل في 9 نيسان، استنكاراً للجريمة النكراء التي أقدم عليها المجلس النيابي وألغى حقوقاً مكتسبة أقرّتها لهم كلّ قوانين الإيجارات السابقة، خصوصاً تعويض الإخلاء، وفرض عليهم زيادات جائرة لا قدرة لهم على دفعها، والعاجز عن دفعها لا خيار أمامه سوى التشرّد أو الهجرة قسراً».
وأُعلن عن اجتماع تحضيري، يعقد في الرابعة والنصف من بعد ظهر الاثنين المقبل في 7 نيسان، في مقر الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان من أجل إنجاح التحرّك. وقرّر المجتمعون الدعوة إلى مؤتمر وطني للمستأجرين، تناقَش خلاله خطة تحرك شاملة وتُقرّ، انطلاقاً من حقهم في استخدام كل الوسائل والأساليب المشروعة التي يكفلها الدستور، حمايةً لعائلاتهم من التشرّد والتهجير، ومن أجل صون السلم الأهلي والاجتماعي، على أن يُحدّد موعده لاحقاً.
وختم البيان: «إن المستأجرين لن يقبلوا بأن يكونوا مشرّدين أو مهجّرين في وطنهم، ولهم كل الحق في أن يكون لهم مسكن، وهم مدعوّون إلى ممارسة مسؤولياتهم وحقهم وواجبهم الإنساني والوطني حيال أسرهم وعائلاتهم. ولأنهم أصحاب حقوق مشروعة، فإنهم قادرون على إسقاط القانون الأسود وإحباط الكارثة ومنعها».
تباين
خلال المداخلات في الاجتماع، علت نبرة المتحدّثين، حتّى أنّ بعضهم خال نفسه خطيباً أمام مليونياتٍ من المحتشدين، وقد يُبرّر ذلك لأن إقرار هذا القانون من وجهة نظرهم كارثة حقيقية، وهم يعبّرون عن وجعهم وسخطهم. لكن المفارقة، كمنت في التباين بين آراء المسؤولين عن تنظيم هذا الاجتماع. فمنهم من دعا إلى الاعتصام يوم الأربعاء المقبل كما جاء في البيان، ومنهم من ارتأى تغيير مكان الاعتصام، أو تعدّد أمكنته، في حين ذهب آخر إلى تجييش الحضور طالباً منهم النزول حالاً إلى الشارع… «والقصة ما بقا بدها»!
المستأجرون القدامى دعوا للنزول إلى الشارع، والتمسوا «رأفة» الرئيس سليمان، كي لا يُشرّدوا في هذا الشارع، فهل يوقّع سليمان؟