ماهية الهدنة القتالية…
سناء أسعد
مما لا شك فيه أنّ الجميع يعيش «فوبيا» الهدنة القتالية. يقف على أبواب التكهنات التي اصطف أمامها وخلفها العديد من التساؤلات في مختلف الجوانب والاتجاهات والاحتمالات تتطلب الكثير من الأجوبة والتي لا بدّ منها للخروج، ليس بشكل مطلق بل جزئي، من بوابة الخوف الذي أثارته اتفاقية وقف القتال، أو وقف الأعمال العدائية، بحسب ما يريدون وإن كانت لذلك معان وأبعاد كثيرة.
لاأعرف كم من محلل نحتاج ليفسروا لنا تلك الماهية المسمّاة بالهدنة، وكم خبير استراتيجي يجب أن يرافقنا لفكّ الألغاز المزروعة بين الخبايا الكامنة في شيطان التفاصيل وشيطان آلية التنفيذ والتي من الممكن ألا تطبق بشكل فعلي، وإن حصل وتمّ تطبيقها فمن المتوقع أن يتم الخرق. وإذا لم تُخرق فما هي النتائج المتوقعة من تلك الماهية المتفرعة المتعدّدة الماهيات؟ ماهية الوقت، ماهية الموافقة، ماهية الأسباب التي دفعت إلى الاتفاق على هذه الهدنة .
لماذا هذه الهدنة الآن وما حاجة الحكومة السورية إليها أمام التقدم الميداني الذي يحققه أبطال الجيش العربي السوري الأشاوس على كلّ شبر من أرصنا الغالية، بالتعاون مع حلفائه؟
ما حاجتنا إلى ترجيح الاحتمال المفروض بقوة والذي يعتبر الشمّاعة الذي تعلق عليها كافة المخاوف التي نعيشها وهو استغلال هذه الهدنة لإمداد الإرهابيين بالعتاد والسلاح عبر الحدود من الدول الداعمة والممولة للإرهاب وفي مقدمتها تركيا والسعودية، والعشق «الداعشي» الإرهابي يسري متأصلاً في عروقهم العفنة ومعه يستحيل كبح مغامراتهم العاطفية، لا سيما أنّ ذلك العشق قادهم إلى الجنون فهو الشيء الوحيد الحقيقي الذي يعبر عن وجودهم وبقائهم وطبعاً لا نستبعد أن تتم محاولات كثيرة لعرقلة تنفيذ هذه الهدنة فكلّ ما ترتضيه الحكومة السورية وروسيا يثير استفزاز وغضب أنقرة والرياض فتقفان في وجهه لمنع حدوثه؟
لماذا وافقت أميركا على هذه الهدنة ورضخت لروسيا بشأن استبعاد جبهة «النصرة» في ما يتعلق بوقف الأعمال العدائية، رغم تعنّت واشنطن، في وقت سابق، وإصرارها على ضمها إلى الفصائل التي يجب وقف إطلاق النار معها؟
إنّ توصيف ما يجري الآن لا يمكن تطويقه لحصره بأنه مجرد آلية لوضع الحلول موضع التنفيذ فقط واستبعاد إمكانية وصفه باللعبة السياسية ويصحّ وصفه بأكثر من أنها ميدانية، فلا يبدو أنّ الميدان السوري يحتاج إلى المزيد من الأوراق لإثبات وجوده بقوة على امتداد المساحة الجغرافية لسورية، سواء كانت هذه اللعبة تصبُّ في مصلحة كلّ من أميركا وروسيا، أو حتى الدولة السورية مغلفة بجملة من الاتفاقيات التي تطلبتها الطبيعة الدبلوماسية.
فموافقة أميركا على هذه الهدنة يصبُّ في ميزان العجز ذاته. ميزان عجز واحد يتأرجح بين كفتين: الأولى دفعت بها إلى افتعال هذه الحرب الكونية والثانية أرغمتها على القبول بالهدنة وغيرها من جملة الاستسلامات التي لا تخلو من المحاولات البائسة الخائبة للصمود أمام الأمواج الروسية الهائجة والتي تلطم الوجه الأميركي وتحطمه على صخور الشواطئ السورية.
إنّ عجز أميركا و«إسرائيل» عن تغيير مواقف الحكومة السورية وانتزاع مبادئها ومواقفها المقاومة بتطبيع العلاقات وتوقيع معاهدة سلام تضمن أمن وسلامة «إسرائيل» في المنطقة،
لكي تصبح الدولة السورية كغيرها من الدول العربية التي أدت الطاعة والعبودية الدائمة للسلطان الأميركي والشيطان «الإسرائيلي»، فباعوا القضية الفلسطينة واليمن والمقاومة وليبيا والعراق وسورية… باعوا كلّ شيء واشتروا العمالة واستبسلوا في صهينتهم ويهوديتهم،
هو الذي أدى إلى اشتعال هذه الحرب ضدّ سورية تحت مسمّيات وحجج متعدّدة ومختلفة بحسب كلّ مرحلة، وكلّ خطوة تطلبت إحداث التغيير، أما كفة الميزان الثانية فتتمثل في العجز عن تحقيق الانتصارالمُراد من هذه الحرب والذي أثمر هذه الهدنة.
إنّ محاولة أميركا الوصول إلى اتفاق مع الحكومة السورية، وإن كانت واهمة يمثل في حدّ ذاته أحد خطوات الانتصار، لا سيما إذا عدنا بشريط الأحداث إلى مرحلة التصريحات الأميركية المتعلقة بسقوط شرعية الرئيس بشار الأسد.
تريد أميركا أن تحفظ ماء وجهها بالسير في عملية الحلول السياسية، طبعاً بوجهها الإعلامي، لا بطابعها الجدي… فماذا بوسعها أن تفعل؟ لن يكون هناك أكبر من هكذا حرب وأكثر من تلك التجهيزات تطوراً وتقدماً وتخطيطاً، ذلك التجييش الذي شاركت فيه قرابة تسعين دولة وحملات الدعم اللوجستي والعسكري والمعنوي للمجموعات الإرهابية التي تجاوزت الأرقام الخيالية وكلّ التوقعات والمقاييس والحدود.
رغم ذلك كله، لم يسقط الرئيس الأسد ولم تُهزم سورية ولم تضعف إيران بل ازدادت قوة، كما أنّ هذه الحرب لم تستنزف طاقات وقدرات حزب الله الذي لم يتوان عن الوقوف إلى جانب الحكومة السورية رغم كلّ الهجمات الشرسة ضده لتضييق الخناق عليه وأصبحت روسيا هي الزعيم الأكبر في ميزان القوى…
أمر التخوف والتكهنات والترقب والانتظار كلّ هذا لا يمكن تجاهله وتجاوزه بسهولة وعدم مبالاة… ولكن لا يمكن أن نتجاهل أيضاً أنه يستحيل للحكومة السورية مع روسيا اتخاذ أي قرار في هذه المرحلة من شأنه الرجوع بنا إلى الوراء وتقديم كلّ هذه الإنجازات للعدو على طبق من الماس…
الآن ومهما حدث، فإنّ كلّ شيء يصبّ في مصلحة الحكومة السورية. هذا أمر لا خلاف فيه… فإن تحققت الهدنة والتزمت الفصائل المعنية بوقف إطلاق النار واستمرت المعركة ضد «داعش» وجبهة «النصرة»، سيكون أمام المجموعات المسلحة التي لم يتم اعتبارها إرهابية إما الانتظار والترقب لمدة معينة يجب الانطلاق بعدها لمرحلة أخرى ضمن خطة مسبقة لتغيير مسار غير متوقع حدوثه، أو الانضمام إلى فصائل «داعش» و«النصرة» للقتال معهما، أو العكس من ذلك… وبالتالي فإنّ وقوع الخلافات بين صفوفهم في الحالتين محتمل جداً بسبب تخلفهم وحقدهم وجهلهم وغرورهم الأحمق…
وإذا لم تتحقق الهدنة وتمّ الخرق منذ البداية، سيكون الردّ قاسياً وعنيفاً جداً لأنّ هذا الخرق سيكون بمثابة اعتراف رسمي وخطي بتلك النيران على إرهاب تلك الفصائل، ويبدو أنّ النار ستكون قي هذه المرحلة بالذات أبلغ وسيلة لإقناع أميركا بما هي أصلاً مقتنعة به وبالإجماع الدولي والعالمي، بأنّ جميع الفصائل التي تحمل السلاح ضدّ الدولة السورية هي تنظيمات إرهابية بامتياز…
هذه الهدنة ستكشف الأوراق المكشوفة ولكن بالطرق القانونية والشرعية ولا سبيل بعدها إلى الهروب من المحاسبة والمساءلة…
هذه الهدنة ستؤدي إلى الإسراع في إنهاء هذه الحرب وليس البطء كما يعتقد البعض…
عانينا الكثير وفقدنا الكثير والأزمات تفاقمت وتشعبت وفتحت أبوابها على مصراعيها على الأصعدة كافة، ولم يبق إلا القليل…
سيكون النصر حليفنا، فاليأس لن يحجز له مقعداً في هذه المرحلة مهما حصل من عراقيل وتجديد للتمركز والتمويل والمؤمرات. الآن بالذات يستحيل أن يتغير شيء، والإيمان بالنصر هو أقلّ ما يمكن أن نعبّر عنه عربون شكر وتقدير لتضحيات وصمود أولئك الأبطال الشجعان أبطال الجيش العربي السوري…