هل الحديث الروسي جدي عن الفدرالية؟

في تصريح يتيم تحدث نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي رياباكوف عن فرضية أن تكون الفدرالية حلاً مناسباً لسورية، ولم يكد يجفّ حبر التصريح حتى بدأت ولم تنته بعد التردّدات والتداعيات والتحليلات. والأمر بالتأكيد ليس بسيطاً ولا عادياً، فروسيا حليف موثوق ووثيق للدولة السورية، والفدرالية تعني أنّ سورية التي تبشر بها الفدرالية ليست سورية الموحّدة نفسها التي نعرفها، والدولة السورية ومَن معها يخوضون حربهم تحت عنوان رئيسي هو رفض تقسيمها، والكلام الروسي جاء متزامناً مع تحذير أميركي من أنّ سورية قد تذهب للتقسيم ما لم ينجح وقف النار، مع حديث مبهم عن خطة بديلة، وقد سبق كلّ ذلك كلام أميركي متعدّد المصادر عن أنّ سوريا والعراق اللذين كنا نعرفهما بحدودهما الجغرافية قد أصبحا شيئاً من الماضي، ومناسبة الكلام الروسي كانت الحديث عن الأكراد وصيغة علاقتهم بسورية الجديدة، والحساسية تجاه مشروع نشوء دولة كردية منتشرة في كلّ المنطقة مع تصريحات كردية من العراق أساساً، ومن بعض التشكيلات السورية عن نيات انفصال وبناء دولة مستقلة، لأكراد سورية أو لهم ولأكراد العراق أو لكلّ أكراد المنطقة وخصوصاً في تركيا.

الأكيد أنّ تقسيم سورية يعني وجود مشروع لتقسيم المنطقة، فيستحيل أن تتقسّم سورية ولا يكون التقسيم متصالحاً مع بيئات عرقية ودينية ومذهبية، ومراعياً لخطوطها الجغرافية نسبياً، وهذا سيسحب ذاته على تركيا وسيكون سباقاً في العراق ولاحقاً في السعودية، والمصلحة الأميركية تتنافى مع ذلك لكونه سينتج دويلات ساحلية على المتوسط من ألوان طائفية تفرض قربها من إيران تمتدّ من شمال فلسطين حتى جنوب اليونان، وسينتج في الخليج دويلات مشابهة مقابل الساحل الإيراني تحتكر نفط الخليج كله، ما يجعل إيران دولة إمبراطورية تملك ساحلَي الخليج المتقابلين وتملك حصرية سيادية للإبحار في مياهه، وساحل المتوسط، ونفط كليهما، لتصير ربما أهمّ من روسيا وأميركا، ولذلك مخطئ من يتحدّث عن سعي روسي لدويلة مؤيدة للرئيس السوري، فتلك الدويلة ستكون حكماً في حال نشوئها مكونة على أساس طائفي، يفرض طبيعياً أن تصير مرجعيتها إيران ولا مكان لروسيا فيها، ولذلك مكان روسيا السوري هو مع الدولة العلمانية العابرة للجغرافيا الطائفية وليس مع سورية المقسَّمة على أساس عرقي وطائفي.

الفدرالية تعني ولايات ذات إدارة ذاتية لها حكومة مستقلة لإدارة الخدمات والجبايات ولها مجلس منتخب، كما هو حال الولايات الأميركية، لكن الدفاع والأمن والخارجية والمالية والنفط والغاز والثروات الجوفية والسطحية ملك للدولة الفدرالية المركزية، ولذلك ربما لا تمانع روسيا بالفدرالية لسورية، لكنه ليس مشروعها الذي تقاتل لأجله بالتأكيد، لأنّ ما يعنيها هي الشؤون الدفاعية والخارجية والمالية والنفطية وكلها بيد الدولة المركزية الفدرالية، لكن روسيا تدرك الحساسية السورية تجاه كلّ أشكال التراجع عن الوحدة التي تعرفها بشكلها الراهن انطلاقاً من أن الأمر ليس صيغة تعتمد لتوحيد كيانات مقسّمة بل لتقسيم جغرافيا موحدة، وعندما يتمّ ذلك وفقاً للتكوين العرقي والطائفي سيصير أساساً لاحقاً للمزيد من الاستقلال عن فكرة الدولة المركزية، والأشدّ خطورة أنه يعيد تنظيم الناس سياسياً على خلاف فكرة المواطنة بل وفقاً لهوياتهم العرقية والدينية فيعطل علمانية الدولة ويفخخها، ويجلب تدريجاً مرجعيات خارجية للولايات المفدرلة، ونموذج كردستان العراق حاضر في المجالين كدليل على مخاطر الفدرالية.

لو كانت روسيا متفقة مع أميركا على تقسيم سورية أو منح الأكراد استقلالاً وانفصالاً لكان جرى اعتماد التمثيل الكردي الذي يفتح مجالاً جغرافياً يتسع لكيان مستقلّ، ففي سورية لا أرضية جغرافية وديمغرافية لمثل هذا الكيان دون أكراد العراق، وروسيا قاتلت كي لا يكون للبشمركة دور سياسي وعسكري في سورية، كما كانت ترغب أميركا منذ معارك عين العرب، ولأن ليس في سورية فرصة للحديث عن انقسام على أساس ديني وعرقي ومذهبي، في ظلّ الكتلة الجغرافية والديمغرافية الداعمة للدولة السورية العابرة للطوائف والمذاهب، يصير الكلام الروسي عن الأكراد بعيداً عن التقسيم، باستبعاد البشمركة عن المشهد، ويصير رسالة سياسية لا تعبيراً عن خطة، رسالة تريد استفزاز تركيا من جهة بالتلويح بعصا شبه كيان كردي مساند لحزب العمال الكرستاني على الحدود، ورسالة تريد أن تقول إنّ الحلّ السياسي الدستوري يجب أن يشارك فيه المعنيون وإذا كانت مناقشة شكل الدولة دستورياً مسألة أساسية ومحورها الأكراد فلا يمكن عقد مفاوضات تتصل بهذا المستقبل بدونهم، وهذا أفضل تمهيد لضمّهم إلى جنيف.

لم يصل البحث بالحلّ السياسي لسورية إلى شكل الدولة الدستوري لنفهم التوقيت في هذا الإطار، وداعش والنصرة يمسكان بنصف الجغرافيا السورية، والمطروح على الطاولة هو تشكيل الوفد المعارض إلى محادثات جنيف، والقضية التي اعتدنا أنّ روسيا تسخر مواقفها لتحقيقها تتصل دائماً بالحلقة الراهنة المطروحة، فهكذا كان جنيف الأول وهكذا فيينا وهكذا وقف النار وهكذا اليوم، وقضية روسيا اليوم نسف حصرية وفد الرياض عن تمثيل المعارضة وخلق بيئة تتيح طرح المشاركة الكردية كضرورة….

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى