إلى جنان الخلد يا «أبو سعد»… وتبقى طرابلس رمزاً للوفاء
عبدالله خالد
دمعت عيناي وأنا أرى جموعاً من الحشود الشعبية في طربلس تشارك في مأتم الأمين واصف فتال بكثافة لافتة في وقفة وفاء لمن وقف معها وساندها في الملمات وداوى جروحها وقدّم لها المساعدات المادية والمعنوية – بأشكالها المختلفة – في استعادة لماضيها وإزالة للضباب الذي تراكم في سمائها نتيجة الشحن المستمرّ لغرائز أبنائها في محاولة للتنكّر لتراثها الوطني والقومي والديني المتسامح.
وكانت هذه العودة للأصالة الطرابسية قد تجلت في أنقى صورها في مأتم الرئيس عمر كرامي في العام الماضي، وتكرّرت في أكثر من مناسبة في استعادة لتاريخها المشرق وتكفير عن زلات ومواقف وقع فيها بعض من ضللوا وعجزت أعينهم عن رؤية حقيقة ما يجري من محاولات لتشويه صورتها ونقلها إلى موقع لا علاقة لأبنائها به.
لقد توافد أبناء طرابلس من الأسواق الشعبية من الحدادين والنوري والرمانة والسويقة وباب الحديد والقبة والتبانة والميناء والبداوي وغيرها من المناطق ليشاركوا في وداع أحد رموزهم الذي لم يقصّر يوماً في تحسّس آلامهم والسعي إلى تحقيق أحلامهم وآمالهم وبلسمة جروحهم ومشاركتهم أحزانهم قبل أفراحهم. فهم يذكرون أنه بعد أن اضطرته ظروفه الصعبة التي عاشها لمغادرة أرض الوطن إلى ديار الإغتراب في غانا عمل ليل نهار ليس لتحسين وضعه فقط – على أهمية ذلك بالنسبة إليه – وإنما لتحسين وضع أقاربه وإخوانه وأصدقائه ورفاقه من أبناء طرابلس الذين استقدمهم إلى غانا وساعدهم على بدء العمل في مشاريع منتجة ومثمرة مع ما يعكسه هذا من تحسين للوضع المعيشي للكثير من العائلات الطرابلسية.
ولم ينس من بقي في طرابلس بل مدّهم بالكثير من المساعدات وساهم في تغطية مصاريف حقلين أساسيين مكافحة الجهل والمرض من خلال تحمّل نفقات المشفى والمدرسة وبعد ذلك الجامعة للكثير من أبناء طرابلس الكادحين.
وقد جعلت نجاحات أبو سعد في أكثر من مجال في غانا منه شخصاً مؤهّلاً للعب دور سياسي بعد أن أصبح قادراً على دعم الحكم فيها، الأمر الذي جلب له الكثير من المتاعب، خصوصاً بعد أن تكرّرت ظاهرة الانقلابات العسكرية فيه.
على الصعيد السياسي والفكري والعقائدي بقي أبو سعد وفياً لفكر النهضة والعقيدة القومية الاحتماعية سواء خلال وجوده في طرابلس حيث كان يتقدّم الصفوف للقيام بأصعب المهام وأكثرها تعقيداً، وتابع في ديار الاغتراب تأدية المهام التي كلف بها وركز على ترسيخ أفضل العلاقات بين المقيمين في الوطن والمنتشرين في ديار الإغتراب لحث الجميع- حسب قدراتهم- على الإسهام في تنمية وطنهم وتحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أبنائه.
وبعد عودته إلى أرض الوطن حقق حلمه الكبير في إشهار «بيت المغترب» لمتابعة ما بدأه في غانا وحقق نجاحات كبيرة في ميدان الاغتراب وأصبح عضواً في المجلس الاقتصادي – الاجتماعي الذي تأسس بعد توقيع اتفاق الطائف.
وكان قد أسهم إلى جانب الرئيس رشيد كرامي في تأسيس هيئة التنسيق الشمالية التي لعبت دوراً كبيراً لتغطية ثغرات غياب الدولة خلال الحرب الأهلية، ونسج علاقات جيدة مع أغلب القيادات السياسية في لبنان وتوسعت لتشمل قيادات عربية وفي مقدّمتها قيادات سورية وفلسطينية استضاف ياسر عرفات خلال وجوده في طرابلس وعراقية ومصرية وسعودية. وخلال الحرب الفلسطينية – الفلسطينية التي اندلعت بين المؤيدين لياسر عرفات والمعترضين عليه، والتي جلبت الدمار لأكثر من منطقة شمالية، وتسبّبت بمغادرة الرئيس رشيد كرامي طرابلس إلى دمشق، كلف أبو سعد بالتعاون مع عدنان الجسر وعشير الداية بإجراء اتصالات بين الطرفين لوقف الاقتتال، ووافق المعترضون على ذلك شرط موافقة عرفات أيضاً. وحين ذهب الوفد لمقابلة عرفات في الزهرية صادف أنّ مدفعا موجوداً إلى جانب مكان إقامة عرفات كان يطلق المدفعية على جبل تربل حيث يتواجد المعترضون وخلال الحديث بين عرفات والوفد قال عرفات إنّ فريقه لا يطلق النار أبداً وأنه سيعدم من يتهم فريقه بذلك. وبجدية كاملة التفت أبو السعد إلى الجسر والداية وأوصاهما بأولاده والتفت إلى عرفات وقال له: إنّ فريقك يطلق النار وقد رأينا هذا الأمر بأعيننا وانفجر الأربعة بالضحك.
وثمة حادثة أخرى كان بطلها أبو سعد. فقد كلف الرئيس كرامي الوفد الثلاثي بنقل رسالة إلى عرفات تطالبه بالخروج من طرابلس حرصاً على السلم الأهلي فيها. وتمّ اللقاء في بلدية طرابلس وبعد انتهاء اللقاء خرج عرفات وأعضاء الوفد للقاء الصحافيين الذين بادروا إغلى سؤال عرفات عما إذا كان قد تلقى رسالة بهذا المعنى. فنفى ذلك وقال إنّ أكثرية الطرابسيين تؤيده وإنّ الأقلية هي التي تطلب ذلك. وحين سئل أبو سعد أجاب: أنا من تلك الأقلية التي سلّمته الرسالة. وضحك الجميع وغادر عرفات المكان.
على الصعيد الثقافي أصبح عضواً في مجلس إدارة مؤسسة مهمتها توزيع المنح أسّسها الأمير تركي بن عبد العزيز على الطلبة العرب. وأسّس مجلة «المنبر» في باريس بالتعاون مع رفيقه منصور عازار واستقدما طاقماً كاملاً من الصحافيين اللبنانيين للعمل فيها.
خاض أبو سعد غمار الانتخابات النيابية وحصل على أصوات مرتفعة ولكنه لم يوفق بالنجاح. ورغم ذلك استمر كعادته في تقديم الدعم والمساعدة لمن يطلبها.
هذا غيض من فيض مما قام به الأمين واصف فتال. وهذا هو الرمز الشعبي العقائدي الملتزم الذي فقدته طرابلس بالأمس. فإلى جنان الخلد يا أبو سعد. ارقد بسلام فقد أنصفتك طرابلس يوم رحيلك.