أزمة معاشات ورواتب موظفي الدولة: هل هي حقيقية أم سياسية؟
د. أحمد اللقيس
من المعروف علماً وقانوناً أنّ رواتب الموظفين في الدولة تشكل العنصر الأساسي من معيشة هؤلاء الموظفين، لا بل تشكل المورد الرئيسي لهم بكافة قطاعاتهم سواء من موظفي الإدارة العامة أم موظفي القطاعات العسكرية والأمنية أو قطاع التعليم والتربية مع ما يميّز القطاع الأخير لجهة شمول التشريع للقطاعين العام والخاص فيهما.
وتتمتّع رواتب الموظفين بامتياز عام يعلو على كلّ نفقة ويتوجب على الدولة تأمينها قبل أيّ نوع من الإنفاق.
ونظراً إلى أهمية هذه الرواتب في حياة الموظفين وعائلاتهم، ولاستمرارية ودورية هذه الرواتب، فإنّ على الدولة تأمين اعتماد الرواتب بداية من موازناتها السنوية.
ولم يعرف لبنان، طيلة فترة الأزمات المتلاحقة منذ عام 1975 وحتى عام 2005 أية أزمة أو عجز من قبل الدولة عن دفع رواتب ومعاشات موظفيها، كما أنه لم يتوقف عن دفع كلّ متوجباته تجاه الدائنين، رغم ما عرفته مالية الدولة من أزمات متفرقة، وهذا أمر جيّد يُحسب لمصلحة الدولة وليس عليها.
إنّ الأمر المستجدّ في موضوع الرواتب هو عندما توقفت الدولة عن إقرار موازناتها منذ عام 2006 وحتى الآن حيث ظهرت مشكلة تأمين الرواتب للقطاع العام، رغم غياب الموازنة، فعمد مجلس الوزراء الى ابتداع أسلوب جديد لتأمين الرواتب والأجور، انطلاقاً من نص في قانون المحاسبة العمومية، يجيز دفعها قبل إقرار الموازنة باعتبارها من النفقات الدائمة بانتظار إقرار الموازنة، وهذا يعني أنّ نية المشرّع هي منح السلطة التنفيذية صلاحية العمل لاستمرارية المرفق العام. وانطلاقاً من هذا المبدأ يقتضي عدم التوقف عن صرف الرواتب والأجور لأيّ سبب كان، إنما لم يكن يرمي الى اعتماد هذه الطريقة لفترة تجاوزت حتى الآن تسع سنوات، ما يحملنا على طرح السؤال التالي: هل انّ الاستمرار بطريقة الصرف هذه أمر قانوني وشرعي؟ أم انها مخالفة للقانون ويجب التوقف عنها ووضع حدّ لها؟
انطلاقاً من نظرية الظروف الاستثنائية يمكن السلطة التنفيذية تجاوز الأوضاع القانونية المطلوب اعتمادها في الظروف العادية ويجعل تصرّفها غير معيوب بمخالفة القانون، ويمكن تطبيق هذه القاعدة على الأوضاع التي عرفها لبنان منذ عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الأمر الذي يجعل اعتماد هذه القاعدة مقبولاً، على رغم تفهّم معارضة بعض علماء الدستور والقانون المالي لهذه النظرية، بخاصة أنّ الدولة عادت الى تكوين نفسها مع إجراء الانتخابات النيابية عام 2005 مما يحتّم إعادة دورة الحياة مجدداً الى إدارات الدولة ويجب الخروج من نظرية الظروف الاستثنائية والقاهرة، لأنّ الواقع لم يجرِ على ما كنا نتمناه بسبب العدوان «الإسرائيلي» عام 2006، لنظرية الظروف الاستثنائية حتى عودة الدولة الى مسيرتها عام 2008 مع انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة، الأمر الذي يحتّم العودة الى الدورة العادية لمشروع الدولة في كلّ مسؤولياتها وواجباتها، وأهمّها إعداد موازنة وإقرارها وتنفيذها، وهذا ما لم يحصل، فاستسهلت الدولة الاستمرار بالطريقة نفسها في الإنفاق من دون احترام القوانين المتعلقة بالمالية العامة، وبخاصة إقرار الموازنة السنوية ودورياً، مما يشكل في رأينا مخالفة لقانون المحاسبة العمومية غطتها الحكومة بما يُسمّى سلفات الخزينة عند احتياجها إلى الصرف والإنفاق، وكأنّ ليست هناك سلطة تشريعية يجب ان تقرّر وتصدّق على الإنفاق قبل صرف اي مبلغ ومهما كانت أهميته، وهذا أمر حتمي نظراً إلى ضرورته القانونية والدستورية.
بعد تشكيل الحكومة الحالية، وعند وصولها الى مأزق الصرف من دون توافر الاعتمادات المطلوبة لدفع رواتب الموظفين من القطاع العام بكلّ قطاعاتهم، عمد وزير المالية الى إثارة الأمر محرّراً من عدم القدرة وعدم وجود النية للاستمرار في مخالفة القانون بالصرف على أساس السلف المالية، حتى ولو كان الأمر لمعاشات الموظفين، وهو يطالب بإقرار الاعتماد المطلوب في مجلس النواب بهدف قوننة الإتفاق، ونحن نعتبر أنّ هذه المطالبة هي في محلها القانوني ويجب الإصرار عليها، وعدم التحجّج بالسوابق والأعراف لأنها لا يمكن ان تكون بديلاً من القوانين والأنظمة والنصوص الدستورية، وعلى كلّ مسؤول أن يتحمّل مسؤوليته في هذا الإطار، لا أن يحمل أيّ مسؤول آخر على المخالفة للتساوي في المخالفات.
كما لا يجب ان يؤخذ الموظفون رهينة في هذا الأمر، ولذلك يُفترض العمل على عقد جلسة تشريعية في أقرب وقت لإعطاء الموافقة القانونية للإنفاق، لكي لا ندخل في النفق المظلم وما يمكن أن يتركه من آثار سلبية على الصعيدين المعيشي والاجتماعي، وهو ما ستكون نتائجه أسوأ من الآثار الأمنية وأكثر خطورة منها.
أستاذ جامعي