العرب يجزّئون قضايا الأمة الواحدة
د. عزمي منصور
أصبح العرب منذ نكبة فلسطين عام 1948 واغتصاب اليهود معظم أرضها وتهجير غالبية شعبها وإقامة الكيان الصهيوني، أمام تحد كبير يهدد وجودهم ومستقبلهم، بالإضافة الى تحدي التجزئة الذي فرضته اتفاقية اتفاقية سايكس- بيكو الاستعمارية، والتي قاومها شعبنا في كل بلاد الشام، مثلما قاوم مشروع الوطن القومي اليهودي عبر العديد من الهبّات والانتفاضات والثورات المسلحة، فيما توالت الهجرات اليهودية غير الشرعية الى فلسطين بدعم من دولة الانتداب البريطاني.
منذ عام النكبة 1948، أضحت المسألة الفلسطينية أهم القضايا التي تواجه الأمة، بل وقضية القضايا الى يومنا هذا، ويترتب على حل هذه المسألة مستقبل وحدة الأمة ونهضتها وتنميتها، ومساهمتها في ركب الحضارة العالمية.
منذ ذلك التاريخ لم تكن استجابة الدول العربية بحجم التحدي، فهناك من تاجر بالقضية وبنى وجوده على هذه النكبة والهجرة، وهناك من استسلم للأمر الواقع المرفوض، ونأى بنفسه عن الصراع، وهناك من استشعر الخطر اليهودي المقبل، وبات حريصاً على الإعداد والمواجهة.
عبر عقود من الزمن والاستنزاف لدى البعض والتضحيات لدى البعض الآخر، والاستثمار من قبل بعض الدول العربية تحت شعارات المواجهة أو الإفادة من طول ساعات الاحتضار، أو التحالف السري مع هذا العدو، لم تبق القضية الفلسطينية محور القضايا على المستوى الرسمي لدى بعض الدول العربية وعلى مستوى بعض النخب الانعزالية.
منذ نهايات القرن العشرين بدأت تطالعنا بعض النخب بقضايا مركزية جديدة لأقطارها تحتل الأولوية لديها، فهناك لدى البعض «قضية لبنانية» تقوم على مسالمة الكيان الصهيوني واعتباره جاراً وعدم الانحراط في الصراع معه، بل ومحاربة العنصر الفلسطيني المطالب بحقه كونه يعرّض الكيان اللبناني لتبعات، يرى أنه في غنى عنها، رافضاً أيضاً منطق القوى اللبنانية التي ترى في الوجود الصهيوني على أرض فلسطين خطراً على وجودها بحكم طبيعة هذا الكيان العنصري القائم على الاغتصاب، ودوره الوظيفي في إبقاء المنطقة في حالة من التخلف والتبعية، وتحت شعارات الحرية والسيادة والاستقلال وبناء الدولة، أصبح الموضوع الفلسطيني عقبة كأداء، بينما مهادنة العدو والاستقواء به أحيانا، ومسالمته هو الطريق للحرية والسيادة والاستقلال.
في الأردن، رغم انصهار الشعب الفلسطيني والاردني في بوتقة واحدة منذ عقود، قانونياً وشعبياً، ورغم النضال المشترك والتضحيات الجسام التي قدمها الشعب العربي الأردني من مختلف الأصول والمنابت في وجه العدو الصهيوني، يطالعنا في السنوات الأخيرة من أصبح لديهم «قضية أردنية» تتمحور في البحث عن هوية قطرية انعزالية، وترى في الوجود الفلسطيني المنصهر أردنياً وفلسطينياً، تهديداً لهويتها الفرعية، وبدلاً من أن ترى في الوجود والاحتلال اليهوديين خطراً على وجودها وكينونتها، ترى في الوجود الفلسطيني تحديداً منافساً لمنافعها، فتريد التخلص منه عبر شعارات وعناوين بينها «دسترة فك الارتباط حينا» وخطر الوطن البديل حيناً آخر، وتحديد ما هو أردني أيضاً بتاريخ معين، متناسين الجغرافيا والتاريخ ووحدة المجتمع والمصير المشترك، لمصلحة جغرافيا سايكس بيكو وتاريخ مبتور من الزمن والاجتماع البشري.
على صعيد آخر، هناك من يتناغم مع هذا الطرح من ذوي الأصول الفلسطينية، الذين باتت قضيتهم مجرد «حقوق منقوصة»، وأمست الأوليات مقلوبة لدى الطرفين، انطلاقاً من هويات فرعية ضيقة، كأن الاردن أو لبنان أو فلسطين ليست جزءاً من بلاد الشام، بحسب حقائق التاريخ والجغرافيا، أو ليست جزءاً من العالم العربي، بل جزراً معزولة أو كانتونات تبحث عن هوية، أو كأن المشكلة في تحديد هويات على مرجعية سايكس بيكو وليس هوية واحدة مهدد وجودها ومستقبلها من قبل عدو غاشم يريد تغيير ملامح التاريخ والجغرافيا تحت مسمى شرق أوسط جديد.
في حين يتجه العالم نحو الوحدة او الاتحاد او التعاون والتنسيق، يطالعنا البعض باسم الديمقراطية والاستقلال والحفاظ على الهوية بالتقوقع والانعزال، واعتبار القضية الفلسطينية نزاعاً فلسطينياً ـ «إسرائيلياً»، وليس صراعاً وجودياً يهدّدنا جميعاً، في أرضنا وسمائنا ومياهنا وثقافتنا وهويتنا ومستقبلنا.
إن مأساة فلسطين تتكرس ليس بالنكبة وتبعاتها فحسب، انما بالعقليات الضيقة والمريضة، بثقافة الانعزال والتكفير والانهزام التي تقلب سلم الأوليات وتلغي أولى الأوليات، فيما تتجلى ضرورة رص الصفوف وتمتين الوحدة الوطنية والاجتماعية وتغليب ثقافة وروح المقاومة وتجليات هذه الثقافة تعيد للأمة روحها وحيويتها لتكون قادرة على درء العدوان، عبر القوة المادية والمعنوية، فهي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو نكرانه، وهي القول الفصل في الحفاظ على الهوية الجامعة او إلغائها وضياعها.